موساد أو قاعدة أو جماعات إرهابية.. أيا كانت الجهة أو الجهات المتورطة والمتهمة فى الحادث الجبان فى كنيسة القديسين فى سيدى بشر بالإسكندرية، فإن الأمر الآن يحتاج إلى إرادة قوية لعلاج جذور الأزمة المستفحلة على أرض الواقع والتى أدت إلى حالة احتقان طائفى قد يراه بعض المتشائمين بأنه خرج عن السيطرة وأصبح عصيا على الحل.
التنديد والشجب والاستنكار للجريمة الشنعاء وتبادل الشعارات الصارخة عن الوحدة الوطنية والزيارات والأحضان و.."عاش الهلال مع الصليب".. كل ذلك ستهدأ حدته بعد أيام قليلة، وسيرتد كل شيء إلى ما كان عليه وستبقى الأزمة الملتهبة بلا حل، طالما أن الدولة لا تملك إرادة حقيقية فى المعالجة الواعية والموضوعية للمسألة القبطية.
حادث الإسكندرية قد يكون جرس الإنذار الأخير للتحرك ولو لمرة أخيرة لوجه الله، وللحفاظ على سلامة هذا الوطن وصون وحدته، وليتحمل الجميع المسئولية لوأد الفتنة المقيتة، وإطفاء نيران الغضب المشتعلة فى الصدور والاحتكام إلى لغة العقل فى وضع الحلول، بعيدا عن الصراخ والتشنج سواء فى التعبير عن الغضب أو التمسح بشعارات لم يعد لها صدى لدى الناس.
كل حادثة طائفية مرت كنا نحذر من الحوادث القادمة بعدها وكأننا نؤذن فى مالطا، من الخانكة إلى الزاوية الحمراء إلى الكشح وحتى فرشوط ونجع حمادى والعمرانية. أكثر من 70 حادثة طائفية شهدتها مصر طولا وعرضا ولم يهتز لها أحد سوى باللقاءات والصور التذكارية والأحضان.
أحدثت تلك الحوادث خروقات فى الجسد الاجتماعى والنسيج الوطنى للمصريين مسلمين ومسيحيين منذ بداية السبعينات، بسبب سياسات خاطئة وإدارات فاشلة وعاجزة لاحتواء الأزمة وإخماد النيران حتى تبدو الآن وكأنها غير قابلة للإخماد بعد حادث الإسكندرية.
تفجيرات كنيسة القديسين منعطف خطير فى أزمة الوطن لن تنفع معها معالجة المسكنات المعتادة والمملة التى تلامس الجلد ولا تخترق الأعماق، لذلك ظلت الأوضاع فى كل وقت قابلة للاشتعال.
المرة الوحيدة التى انتفضت فيها مصر وحاولت الحل بشكل حقيقى وجدى كانت بعد أحداث الخانكة عام 72، بسبب اعتراض مسلمين على إقامة شعائر دينية فى مقر نادى ثقافى قبطى، ورغم عدم وقوع إصابات أو ضحايا هبت الدولة وتحرك الجميع وتم احتواء الأمر، وعقد مجلس الشعب جلسة طارئة لمناقشة الحدث الطائفى الأول، تشكلت لجنة على أعلى مستوى برئاسة الدكتور جمال العطيفى وكيل المجلس وقتها، لتقصى الحقائق والوقوف على الأسباب، ثم وضع التوصيات بسياسات لحلول جذرية تتناول جميع الأبعاد الاجتماعية والثقافية، وانتهت لجنة العطيفى إلى توصيات عشر تتعلق بالقوانين والقواعد والأعراف التى تنظم مسألة بناء الكنائس ودور العبادة ومناهج التعليم ووسائل الإعلام والثقافة.
دعت اللجنة وتقريرها إلى تفعيل مواد الدستور لتنص على المساواة الكاملة فى الحقوق والواجبات بين المصريين بلا تمييز، وحذرت من عدم الأخذ بالتوصيات، ونبهت إلى خطورة إهمال التقرير وعدم تنفيذ ما به، وعبرت اللجنة فى استعراض التقرير عن مخاوفها من تفاقم تلك الأحداث مستقبلا فى حالة عدم التجاهل من الدولة.
وحدث ما توقعته اللجنة، وأهملت الدولة وأجهزتها تقرير العطيفى ودفعت به إلى ظلمة الأدراج، وحدث ما حدث بعد ذلك، وكما توقعت لجنة العطيفى، كان كل حادث أشد وطأة من سابقه واتسعت رقعة الحوادث وزاد الاحتقان حتى أن الحوادث الفردية يتم تفسيرها بالمعنى الطائفى لها، لأن مناخ التطرف والطائفية كان ومازال هو المسيطر.
حادثة الإسكندرية تنادى الآن بالرجوع من جديد إلى تقرير لجنة العطيفى الذى لابد من الإفراج عنه وتنفيذ ما جاء به بمشاركة جميع فعاليات المجتمع بأحزابه ومؤسساته المدنية والدينية ونخبته الوطنية.أو إعداد تقرير آخر جديد على مستوى لجنة العطيفى.. المهم أن نتحرك أو يتحرك أحد قبل أن يجىء الرعب الأكبر.