قلنا إن اليد التى أطلقت الرصاص واليد التى فجرت القنبلة أمام كنيسة القديسين آثمة، لكن الأكثر إثمًا هم هؤلاء الذين يقفون وراء الأيدى، من يشحنون أدمغة المجرمين، ويقنعونهم أن قتل الأبرياء يمنحهم مكانة فى الجنة، بينما هم يصنعون الجحيم. ونعلم أننا نحتاج إلى الاعتراف بالمشكلة قبل أن نفكر فى تقديم مسكنات سرعان ما ينتهى تأثيرها، لتعود الدائرة كما كانت، وقبل أن نفكر فى مؤامرات خارجية.. لينظر كل واحد عن المؤامرة القابلة للانفجار فى بيته أو فى رأسه.
مثلما تعودنا فى كل كارثة ترتفع الأصوات وتنطلق المبادرات ثم ينتهى كل هذا إلى سابق عهده، ومع التقدير لردود الفعل تجاه التفجير الإرهابى أمام كنيسة القديسين، والمبادرات الفردية والجماعية، وبعض المبادرات حقيقى وصادق وأغلبها إعلانى يدخل فى سياق الاستعراض. فإن الاتجاه العام يبدو تكرارا لسوابق كثيرة، تتصاعد مع الحدث، وتخفت وتنتهى بعده لتعود الأوضاع لما كانت عليه، لأنها تتعامل لحظيا، وانفعاليا، وتتجاهل الأسباب أو تتغاضى عنها.
وإذا كان كثيرون حملوا الداخلية مثلا مسئولية التفجير، وطالبوا بإقالة وزير الداخلية، لما قالوا إنه تقصير أمنى، فقد تجاهلوا مسئوليات المؤسسات والوزارات التى كان غيابها المسئول عن نشر التعصب والتحريض، ثم أن الإرهاب والتفجير يمكن أن يقع مهما كانت الإجراءات الأمنية.
ونحن نعلم أنه فى وقت تصاعد الإرهاب فى التسعينات كانت التفجيرات تقع فى أماكن متفرقة وغير متوقعة فى أتوبيسات أو فى مقاهٍ فى الأقصر ضد المسئولين أو منشآت، ويتوقع نجاح بعض العمليات مهما كانت الإجراءات الأمنية. ونعرف أن أعتى الدول المتقدمة لا يمكنها السيطرة التامة على العمليات الإرهابية، رأينا عمليات وتفجيرات فى مترو لندن أو فى إيطاليا من جماعات فوضوية أو إرهابية، ولا يمكن نسيان تفجير مركز التجارة العالمى فى 11 سبتمبر.
وبالتالى فإن حادث الكنيسة لا يمكن تحميل الداخلية وحدها مسئوليته، بل ربما كانت وزارة الداخلية هى أكثر الوزارات التى تحملت المسئولية، بدءاً من إطفاء الحرائق وحتى التعامل مع المظاهرات الغاضبة، وهو أمر تم بشكل محترف، وتجلى فى التعامل الحضارى للأمن مع الغاضبين فى مظاهرات السبت والأحد فى أعقاب التفجير. وكان خروج مدير أمن القاهرة اللواء إسماعيل الشاعر وحواره مع المتظاهرين وتأكيده على احترام مشاعرهم الغاضبة، كان له أثره فى امتصاص الكثير من الاحتقان، بعد تعرض رجال الشرطة للضرب أحيانا.
المشكلة ليست أمنية وإن كان الأمن عليه مهمة ضخمة وخطيرة، لكن الأمن هنا ليس الطرف الأساسى، فالتفجيرات والقتل وراءهما أفكار، ومحرضون يعملون طوال الوقت. نعرف أن الكثير من المدارس والفضائيات والحلقات فيها الكثير من أسباب إثارة الكراهية والتعصب، ويرهق فقهاء الكراهية أنفسهم للبرهنة على خطأ الطرف الآخر أو تسفيه عقائد الآخرين، ليس فقط بين المسلمين والمسيحيين بل أيضا خلق جدل عقيم بين السنة والشيعة، وبالرغم من أن مصر ليست دولة طائفية فقد تصاعد الجدل بين السنة والشيعة ووصل إلى الشتائم والاتهامات وهو جدل قادم من الخليج. أدخلنا فى معارك وخلافات لا جذور لها ونقل الخلافات المذهبية.
هناك أسباب كثيرة لانتقاد الداخلية فى الانتخابات أو حتى فى مشكلات المرور، لكن فى حادث الإسكندرية فإن المسئولية تقع على جهات أخرى غير الداخلية، فقد اختفى دور مجلس الشعب تقريبا فى الحادث ولم يتجاوز الصراخ والشجب، وتشكيل لجنة تقصى حقائق ستلحق بسابقاتها. ووزارات التعليم والأوقاف والتضامن والقوى العاملة والإعلام التى تحولت إلى ما يشبه عسكرى مرور. كل هؤلاء انتفضوا بعد الكارثة، ولم يفكر أى منهم فى المبادرة، بعد جريمة نجع حمادى أو غيرها من الاحتقانات الطائفية، وبالتالى لا يمكن تحميل الأمن المسئولية، بل من الخطأ تسليم ملف الطائفية للأمن الذى عليه مهام عديدة، بل يفترض أن يكون ملفاً مدنياً، وليس فقط دينياً ولا أمنياً، لأن المحرض هنا والمخطط، أخطر من الفاعل.