نجح الإعلام «الذى لم يتغير» فى جر الناس إلى الكلام فيما يريد، بحيث أصبح فى كل يوم موضوع جديد، يحتشد له كتاب الرأى، وتفرش له البرامج الليلية السجاجيد، تعرف مسبقًا رأى كل شخص فى الموضوع المتداول، ومع هذا تنصت إليه، ولكنك لا تشعر بأنك وجدت ضالتك، وتسعد كثيرًا عندما يطل رجل كبير بحجم الأستاذ محمد حسنين هيكل، يعرف أكثر ويملك معلومات وخبرات عظيمة، ولكنك تفاجأ بأداء لا يليق باللحظة الشابة التى تعيشها مصر، وظهر هذا فى إطلالاته الثلاث بعد يناير، فى الجزيرة، «ولم تكتمل بسبب نجاح الثورة»، وفى الأهرام مرتين، كأن شيئًا لم يحدث، مجرد تشخيص بلاغى بآليات قديمة، ومطالب للمجلس العسكرى بعدم الرحيل مبكرًا، وتخفيض ثروة مبارك من 70 مليارًا إلى عشرة، وما إلى ذلك.
كنت تنتظر من الرجل الكبير شيئًا آخر، فى ظل غياب «أو تغييب» مرجعيات تفيدك فى تكوين وجهة نظر تجاه ما يحدث.
فى الأسبوع الماضى كنت بصحبة صديقىَّ الكبيرين: أحمد بهاء الدين شعبان، ومنير عياد، نتحدث فى الشأن العام، كما يفعل كل الناس، واستوقفتنى واقعة حكاها الأخير، رأيت أن أضعها أمام القارئ كما هى، لأنها من وجهة نظرى تستحق أن تُـحكى.
فى فبراير 1994 كانت الحركة الوطنية متشككة فى مؤتمر الأقليات الذى يعد الدكتور سعد الدين إبراهيم لإقامته فى القاهرة، لأنه يكرس لفكرة التشرذم على أرض الوطن، بالإضافة إلى النوايا الأمريكية السيئة التى تجلس خلف الموضوع، وصدرت بيانات معادية للموضوع، ونشرت جريدة الشعب آنذاك بيانًا وقع عليه خيرة رموز العمل الوطنى، وطلب بعضهم لقاء هيكل طلبًا للدعم والمشورة، وبالفعل نجح الأستاذ أحمد الجمال فى ترتيب موعد مع الأستاذ فى بيته على النيل يوم 9 فبراير، كان فيه جورج إسحق والمهندس جورج عجايبى - رحمه الله - ومنير عياد، «الناشط الوطنى والمهندس الاستشارى»، والجمال بالطبع.
فى البداية اعتبر هيكل أن الخلاف بين المستشار طارق البشرى والدكتور وليم سليمان، والذى نشب بعد المقدمة الثانية التى غير فيها البشرى لكتابه «المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية» سيكون له كبير الأثر فى توتر العلاقة بين المسلمين والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية، بعدها حكى الأستاذ أنه بعد نكسة 67 مباشرة اجتمع عبدالناصر بعدد من رجال الدولة «رفض ذكر أسمائهم» فى حوار استمر 72 ساعة، كان الهدف منه أين نأخذ الناس بعد الهزيمة إلى التاريخ المصرى وإعلاء قيم البطولة والتضحية فيه منذ أيام الفراعنة إلى الآن؟ أم إلى الدين؟، وانتصر التيار الثانى.
هذا ما حكاه هيكل، ويبدو أن هذا الانتصار هو الذى جعل ناصر يقول فى خطاب التنحى «لا يمنع حذر من قدر»، وكأن الهزيمة لا أسباب لها على أرض الواقع؟ تزامن هذا التحول مع ظهور البترودولار، وبداية تغلغل الفكر الوهابى فى مصر من جهة، وظهور السيدة العذراء فى الزيتون، وظهور شنودة المتشدد بعد رحيل كرولس المعتدل، وزيادة كثافة أقباط المهجر... بعد أيام كتب الأستاذ هيكل مقالاً فى الأهرام ضد مؤتمر سعد الدين إبراهيم، جعل القاهرة ترفض استضافته، فذهب به هو وضيوفه وأنصاره إلى.. قبرص.