أكتبُ إليكم، الساعة الثانية ظهرًا، وأنا فى طريقى لمسيرة «الغضب النبيل»، الأحد 9 أكتوبر، التى يحمل فيها المصريون الشموع، ويقفون معًا، يدًا واحدة، رافضين ما يحدث لأقباط مصر من ترويع وحرق كنائس وممتلكات وسباب وتكفير، وشحن مستمر ضدهم، لم تعرفه مصرُ عبر تاريخها، ولا تقبله مصرُ الجديدةُ بعد ثورة يناير التى بعدُ لم تستعد حقوقَ الأقباط المهدَرة منذ ستة قرون. رافضين ما يتلفظ به غلاظُ قلبٍ متطرفون من كلمات لا تليق بمسلم أن يقولها، ولا تليق بمسيحى أن تُقال فى حقّه، يجب توقيفهم بتهم: «ازدراء الأديان»، و«التحريض على الفتنة الطائفية»، و«تكدير السِّلم العام». وإن كنّا لا نُعير بالاً كبيرًا لأولئك الذين يملأون الفضائيات ضجيجًا وسبابًا ونزقًا فى القول يُشعلُ النارَ بين المسلم والمسيحى من أبناء مصر، لأنهم محسوبون على أنفسهم ولا يمثلون إلا أنفسهم، إلا أننا غير قادرين على المرور بنفس المنطق غير المبالى مع كلمات مُفتى الديار المصرية التى قالها مازحًا فأغضب المسلمين والمسيحيين معًا، مثلما أغضب مصرَ والتاريخ الذى سيذكر هذه الكلمات بحزن وعجب، لأن رجلاً فى مكان د. على جمعة ومكانته، لابد أن يزن كلامه بميزان الذهب، إذْ يعرف أنه لا ينطق عن نفسه وحسب، بل عن شعب مصر بأكمله، بما أن فضيلته مفتى الجمهورية المصرية. فهل يرى فضيلة المفتى أن شعب مصر «كلَّه» يقبل أن يُنعت «بعضُه» بأنهم «حشّاشون»، بينما هذا «البعضُ» هم شريحةٌ ضخمة من شعب مصر «أبناؤها الأقباط»؟ يخرج المصريون اليومَ فى «مسيرة الغضب النبيل» لأن المصريين يدركون جيدًّا أن أقباط مصر المسيحيين شعبٌ مسالمٌ بالفطرة وبأمر كتابهم الذى يأمرهم بالإحسان للمسيئين إليهم: «أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مُبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم. لكى لا يكون فى قلوبنا حقدٌ ضد أحد، ولا حتى الشيطان» تسألُ أحدَهم: كيف تأتون بطاقة التسامح الهائلة تلك؟ فيجيبك: «لو أن أحد الرجال ضربك بعصا، هل تكره العصا؟» فتجيبه: «كلا طبعًا!» فيكمل قائلاً: «كلُّ مَن يسىء إليّ إنْ هو إلا عصا فى يد الشيطان، لذلك أحبّه وأتعاون معه ضدّ عدونا المشترك: الشيطان». لذلك لا نندهش حين نقرأ فى الصحف أن الأقباطَ شاركوا المسلمين افتتاحَ مسجد بقرية «أبو شوشة» بقنا، لكننا نتقزز حين نتذكر المتطرف الأهوج الذى خرج يصرخ فى الناس: «منبقاش رجالة لو مولعناش فى كل كنايس إمبابة!» ثم يسبُّ رمزَ أقباط مصر «البابا شنودة»، بألفاظ خشنة بذيئة لا تليق! فى نفس اللحظة التى يتبرّع فيها البابا بقيمة الجائزة التى نالها مؤخرًا من ألمانيا لصالح مستشفى سرطان الأطفال. لم يفكر إذن الرجلُ الوطنى فى شراء أسلحة للكنائس «حسب فِريّة د. سليم العوّا»، لحماية أبنائه الذين يُقتّلون فى صلواتهم، ولم يفكر حتى فى منح قيمة الجائزة لأبنائه المسيحيين، بل منحها لأطفال مصر المرضى دون النظر إلى عقائدهم، لأنه يؤمن، عكس ما يؤمن المتطرفون منّا، بأننا جميعنا أمام الله سواء، وأن حبَّ الله للبشر متساوٍ بصرف النظر عن لوننا ونوعنا وعِرقنا وعقيدتنا، لهذا يحبُّنا المسيحيون مهما أسأنا إليهم وأخطأنا فى حقهم، فيدعون لنا فى قداساتهم قائلين: «نُصلّى لإخواننا أبناء مصرَ من غير المسيحيين»، بينما بعض شيوخنا يدعون عليهم فى خُطب الجمعة، فيشعلون الفتن الطائفية التى يدفع ثمنها المصريون جميعًا. هكذا يُخجلُنا المسيحيون حين يغفرون للمتطرفين منّا، نحن المسلمين، وينسون إساءاتنا مرّةً بعد مرّة، فنشعر، نحن المسلمين المعتدلين، بهول المسؤولية الملقاة على عاتقنا بضرورة حمايتهم من بطش الباطشين منّا، مادامت الدولةُ متراخيةً عن حمايتهم وتأمين كنائسهم من الهدم والحرق العمد مع سبق الإصرار والترصد، وفى وضح النهار على مرأى العالم ومسمعه، فيما يشّكل وصمةً فى ثوب مصر لن ينساها التاريخ. مازلنا نتساءل بمرارة لماذا لم يتم توقيف هادمى كنيسة صول، والماريناب، بينما حُكم فورًا على من «حاول» هدم معبد يهودى بخمسة أعوام سجن؟ أرفضُ، وأخشى، أن تكون الإجابة: «إسرائيل مُهابَة الجانب واحنا مش قدها، بينما الأقباط طيبون وبيسامحوا!» نخرج اليومَ، الأحد، فى مسيرة «الغضب النبيل» لنعلن رفضنا تهاون الدولة مع البلطجية الذين يروّعون الآمنين، والمشايخ الذين يزرعون الفُرقة فى الصدور، ثم تضرب الشرطةُ العسكرية والقواتُ الخاصة متظاهرى ماسبيرو المسالمين الثلاثاء الماضى وتعذب «رائف فهيم» بوحشية كاد معها أن يفقد حياته، لمجرد أنه قال: «لا لحرق الكنائس!» لكل ما سبق نقول: «لا»، لكلّ دخيل يسعى لتمزيق نسيح الشعب المصرى الواحد، الذى ظل واحدًا سبعين قرنًا، وسوف يظل إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومن عليها.
بعد الواقعة:
أعودُ لأتمّم مقالى الساعة 11 ليلاً بعد عودتى من واقعة «الهول العظيم»، التى بدأت نهارًا كمسيرة شموعٍ راقية رفيعة من أجمل ما يكون، لتنتهى على نحو بشع لا يُصدّقّ! قتلى وجرحى وأشلاء وطيش وويل وبلاء!! لَكَم انتظرتُ طويلاً أن يخرج المسلمون ليساندوا المسيحيين، وتحقق حُلمى أخيرًا بعد طول انتظار وشاهدتُ المصريين معًا على الحق! ولكنْ، ما أطول انتظار الحُلم وما أقصر وجوده! لَكم مزّق قلبى ما انتهى إليه حُلمى الموؤود!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة