مساء أمس الأول عشت ليلة قاسية ومرهقة، كنت فى طريقى من الإسكندرية إلى القاهرة، بعد أن حضرت ندوة أقامتها مكتبة الإسكندرية للدكتور فتحى البرادعى وزير الإسكان، ليفتح النقاش حول مخطط تنمية مصر الاستراتيجى، كانت القاعة مفرحة والمنصة كذلك واللقاء ثرى ومبشر بكل خير، وفى القطار رحت أرسم معالم المقال الذى سأكتبه تعليقا على تلك الروح الرائعة التى رأيتها فى الندوة، وحضور مئات الشباب الشغوفين بأن يروا مصر أفضل، كان الأمل بكل عنفوانه معى، لكنى فقدته على أبواب القاهرة.
أول الأخبار التى استقبلتها عن كارثة أمس الأول هو أن اثنين من أفراد الجيش المصرى لقوا مصرعهما فى الاشتباك مع مظاهرات الأقباط، كان التليفزيون المصرى هو مصدر الخبر، بعدها توالت الأنباء عن وقوع إصابات وقتلى، فى هذه الاشتباكات، ولأنى لا أثق كثيرا فى التليفزيون المصرى، ذهبت إلى ميدان التحرير والمنطقة المحيطة بماسبيرو، كانت الساعة تقترب من العاشرة، لكن الشوارع كانت خالية، والطرقات المؤدية إلى التحرير مظلمة، وبالقرب من ميدان عبد المنعم تنبعث رائحة القنابل المسيلة للدموع التى أعرفها جيداً، وفتات الزجاج ملقى على الأرض بكثافة، خلاف بقايا الطوب التى تخبرك بمدى اشتعال المواجهات، اعتقدت أنى سأرى فى التحرير أقباطا غاضبين، أو مسلمين متضامنين، لكنى لم أجد إلا مسلمين غاضبين يحدوهم التعصب وتحركهم شهوة الانتقام، وشعرت وقتها بأن مصر كلها تحترق وليس «الثورة» فقط كما كنت أظن.
حاولت أن أقيم حواراً مع من وجدته، لكن الآذان لم تكن لتسمع، قالى لى أحدهم إن عشرين ضابطا من القوات المسلحة قتلوا على أيدى الأقباط، وأنهم يتعمدون أن يقتلوا ضباطنا لكى نبقى بلا حماية، وحينما قلت له إن الجيش يحمينا كلنا مسلمين وأقباطا قال لى: أنت نايم على ودانك يا باشا ولا إيه؟ الجيش بتاعنا بيحمينا إحنا بس، إنما الأقباط محميين من أمريكا، وأنا هنشوف بقى إحنا ولا أمريكا.
المحزن فى الأمر أن أغلبية من وجدتهم وتحدثت معهم كانوا شبابا عاديين، غير مسيسين ولا يدل مظهرهم على أنهم متدينون، والمحزن أكثر أنهم تحركوا إلى التحرير لمساندة الجيش بعد أن شاهدوا التليفزيون المصرى الذى أخبرهم بوقوع قتلى فى الجيش المصرى ثم أورد إحصائيات وزارة الصحة عن إجمالى القتلى دون أن يقول إنهم أقباط، شاب آخر فى عشرين من عمره سألته عن سبب قدومه إلى التحرير، فقال لى: عشان أشوف الدنيا فيها إيه، فقلت له: طب لو قامت خناقة هتعمل إيه؟ فقال: هضرب طبعا ده دينى.
كنت أقول قبل هذا اليوم كلما تشتعل الأمور بين المسلمين والمسيحيين، أهى فتنة وتعدى، وأردد فى نفسى أن شعب مصر فى رباط إلى يوم الدين، لكن أن يصل الشحن الطائفى إلى هذا الحد فهذا مؤشر خطير على أننا مقبلون على كارثة لابد أن يحاكم عليها أولا المدعو أسامة هيكل الذى كان ينقل نصف الحقيقة التى هى كذب كامل، ويحاكم عليها كذلك شيوخ الفتنة فى الفضائيات والأحزاب الإسلامية، وقساوسة بث الكراهية والاستعداء، ويحاكم عليها كذلك ذلك المقلب المسمى بعصام شرف الذى وضع القانون الموحد لدور العبادة فى الثلاجة حتى اشتعلت مصر.
ما أقسى الأوطان حينما تكون «عوراء» يرى أبناؤها ما يريدون ويتغاضون عما لا يريدون، غير أن الله يريد أن يكذب الجميع، فها هو النيل يمتد على اتساعه لكل مصر لا يفرق بين أبنائه، ها هى السماء تظللنا جميعا لا تحرم أحداً بعينه أو تكرم أحدا بعينه، لكن للأسف هنا فى مصر الآن كل واحد يرى الحقيقة بعين واحدة، والعين الأخرى يخصصها لغض البصر عما يدينه أو يشينه، فمتى تجرى مصر جراحة عاجلة، لترى بعينين مبصرتين.