من بين خيوط العنكبوت، الذى ظلل سماء مصر ويكاد أن يحجب عنها الضوء والهواء، أرى أملاً ونورًا وإن يبدو خافتًا، ولكنه والله، بعقد الهاء، موجود لمن يريد أن يدقق.
فأفتونى فى الأمر يا أهل مصر، هل أنا واهمة بسراب أم أنه حق؟
منذ ليلة الأحد الدامى التى راح ضحيتها 25 مصريّا وعدد لا نعرفه من أفراد الجيش وأنا أرقب كل كاتب فى صحيفة، وكل متحدث على شاشة، وكل وجه فى شوارع المحروسة، فأقرأ كلامًا حزينًا، وأسمع أصواتًا تحذر حزينة هى الأخرى، وأرى وجوهًا وعيونًا خائفة من مستقبل قريب، وربما بعيد، يبدو مجهولاً، والأكثر مظلمًا.
ومن بين كل هذا الحزن واليأس الذى يعترى مصر أشعر بطمأنينة ليست وهمية، بل مبنية على حادثة لها دلالتها، فكلنا، وأؤكد كلنا، مدركون لكم الاحتقان الطائفى الموجود فى هذا البلد، والذى تسرب إلينا على مدى عقود، ولا مجال هنا لتحليل أسبابه ودوافعه، ولكن لا أحد فى مصر - كبيرًا أو صغيرًا، متعلمًا أو جاهلاً، غنيّا أو فقيرًا، مسلمًا أو مسيحيّا - إلا وهو مدرك أن مصر تشتعل طائفيتها فوق السطح وتحت السطح وفى الأعماق، ولكننا نكابر على الأقل على السطح بكلمات وتصرفات وشعارات تبدو وقت الجد جوفاء، ولكن حين كانت ليلة الأحد الدامى جلس المصريون فى بيوتهم يشاهدون تليفزيون بلادهم يستعديهم على مصريين آخرين من الأقباط.
وفى تلك اللحظة تداعت أمامى، وأظن أمام كل مصرى، فى بيته أو فى الشارع، أننا مقبلون على ليلة أكثر دموية بين المسلمين والأقباط، وربما ليالٍ أخرى. كل منا جلس يرسم سيناريو دمويّا فى عقله لأيامه القادمة، لأن كلاّ منا يعرف حقيقة الطائفية فى مصر. والغريب والعجيب أن كلاّ منا جلس يتخيل السيناريو الذى لم يتحقق فى تلك الليلة، أو ما بعدها، لأن المسلمين، حتى المتعصبين منهم، لم يخرجوا، والمسيحيون أيضًا لم يخرجوا حتى لنصرة إخوانهم.
تصورنا جميعًا حين مرت الليلة دون بداية لحرب طائفية أن الصبح ليس ببعيد، وأنه ربما ما لم يحدث فى الليل سيبدأ فى عيون الصباح. ولكن، ولعجبى، فالقاهرة الهادرة فى صباحها لم تصحُ ككل يوم، بل بدت شوارع القاهرة شبه خالية مقارنة بعادتها، وكثير من الناس امتنعوا عن الذهاب لعملهم أو إرسال أبنائهم للمدارس، لأنهم خافوا من الصباح التالى ومن السيناريو المتوقع. ولم يحدث شىء مما توقعناه جميعًا. وربما ظل كل منا ينتظر من سيتحرك ويقوم بمبادرة عبيطة بسيطة لتبدأ الحرب، وأتى المساء التالى، ثم الصباح التالى، ثم المساء، ولم يحدث شىء، فحتى الآن شوارع القاهرة ليست كعادتها، وكأن المصريين يتجنبون الخروج حتى لا يحتكوا بعضهم الببعض، ما يعنى أن الشعب المصرى الذى أراد أحد ما، بقصد أو بجهالة، أن يجيشه لحرب أهلية طائفية وهو مستعد لها... امتنع، بوعى أو دون وعى، عن الاختلاط أو الحركة فى الشوارع لكى لا يتواجهوا مع بعضهم البعض.
هنا وتلك اللحظة فقط أدركت وتأكدت أن هذا الشعب لا يستحق حكامه، ولا صحفييه، ولا إعلامه، ولا تعليمه، ولا شوارعه، ولا شىء مما هو فيه، هو يستحق ما هو أفضل من ذلك بكثير.
فأى بلد على وجه الأرض وفيها المعطيات نفسها الموجودة فى مصر الآن لو حدث فيها ما حدث كما يوم الأحد ما كانت باتت ليلتها إلا وهى فى أحضان حرب طائفية فى شوارعها، ولكن الشعب المصرى حتى الآن يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه أعظم وأمكر من جلاديه.
ولكن مصدر خوفى هو إلى متى يستطيع هذا الشعب بموروثه العتيد أن يتحمل؟
كلمة أخيرة: اتقوا الله فينا وفى أنفسكم يا أولى الأمر، وكونوا شجعان مرة واحدة، ثم موتوا بعدها، أصدروا أمرًا بمنع بناء الكنائس والجوامع لمدة عامين، ووفقوا أوضاع ما هو موجود بالفعل، وكفى، فمصر وشعبها لا يحتاجون كنائس ومساجد، ولكنهم بحاجة لألف شىء وشىء، آخرها دور العبادة.