بعد شهور من الأخذ والرد والمظاهرات والغضب ومطالب بإقالة رؤساء الجامعات وعمداء الكليات الذين تم تعيينهم بقرارات من مبارك ونظامه، ومطالب الطلاب والأساتذة بانتخاب العمداء ورؤساء الجامعات، ذهبت القيادات من الباب وعادت من الشباك، لكن هذه المرة بالانتخاب، وبدا أنه لا توجد بدائل للقيادات الجامعية، أو أن الانتخابات جاءت لتؤكد صواب القرارات السابقة باختيارهم.. بالرغم مما هو معروف أن اختيار القيادات الجامعية كان يتم طبقا للولاء، وبناء على تقارير الأمن. وكان منصب العميد أو رئيس الجامعة هو منصب أمنى بالدرجة الأولى، وليس أكاديميا، ولهذا تدهور البحث العلمى والجامعى، وتراجعت الجامعات المصرية فى قوائم جامعات العالم وخرجت من كل التصنيفات.
اختفى العلم والبحث العلمى من الجامعة طوال عقدين على الأقل وحل محله البحث الجنائى والسياسى. وبالتالى فإن مجرد تغيير الوجوه والقيادات بالانتخاب لا يغير أحوال الجامعات وينقلها من حال إلى حال بعد عقود من التجريف والتخريب شبه المتعمد، واستبعاد المتفوقين لصالح الوارثين.
فقد أنهى توريث المناصب فى الجامعة تكافؤ الفرص وتجديد العقل العلمى، وكان استبعاد المتفوقين يتم لصالح أبناء الأساتذة والمسؤولين، وبالتالى فإن أكثر من نصف هيئات التدريس الحالية والقيادات العليا جاءت بالوراثة. وكان هذا وحده كفيلا بأن يصيب الجامعات بالشلل وينهى البحث العلمى والتأليف الجامعى، ويخرج الجامعات المصرية من أى تصنيف عالمى للجامعات، ومن هنا لا يبدو مستغربا أن تعود القيادات الجامعية بالانتخاب ولا يتوقع أن تختلف عن القيادات السابقة، لأنها تربت فى نفس الأجواء والظروف، كما أن الجامعات تحكمها نفس القواعد التى سادت خلال ربع قرن وأفسدت قيمها، ولا يمكن تصور تغيير جذرى لمجرد ذهاب عميد وانتخاب آخر.
الجامعات تحتاج إلى ما هو أكثر، إلى إعادة بناء على أسس جديدة، تنهى عقودا من الإفساد بالواسطة والمحسوبية والتوريث بين الأساتذة وأبنائهم، انتهت لأن يحتل القيادة العلمية الضعفاء والبلداء الذين احتلوا كراسى الأساتذة لمجرد أنهم أبناء أساتذة أو مسؤولين، وهو توريث لا يقل خطرا عن توريث السياسة.
لقد شهدت مصر من بداية الثمانينيات أكبر عملية تجريف للعقول المصرية فى الجامعات، حيث كان الأساتذة من أبناء الفقراء الذين حصلوا على مواقعهم بتكافؤ الفرص، وهم الذين أنهوا تكافؤ الفرص وأصروا على تعيين أبنائهم بالتحايل، وكانت مفارقة أن الأجيال التى حصلت على مكانتها بتكافؤ الفرص هى نفسها التى أنهت المبدأ، وهو نفس ما جرى فى مؤسسات الدولة التى ورثها جيل وأورثها لأبنائه، فى القضاء والخارجية والشرطة والبنوك والجامعة.
ومن هنا بدأت عملية التجريف، التى تحتاج إلى إعادة صياغة الجامعة من جديد، أكبر من مجرد انتخاب يتم فيه المفاضلة بين أستاذ حصل على موقعه بالوراثة مكان آخر حصل عليه بالأمن.