حين يحتاج عامة الناس فى كل أنحاء المعمورة أن يتفهموا مشهداً ما أو أزمة على المستوى المحلى أو الدولى يلجأون عادةً إلى وسائل الإعلام المختلفة أو أصحاب المقدرة على التحليل الذين تسمح مواقعهم برسم صورة متكاملة الأركان لهذا المشهد أو ذاك.
ولكننا فى مصر الآن نكاد نكون من الحالات النادرة بين الأمم التى لا يستطيع أحد أن يزعم أنه يملك أن يرسم صورة متكاملة أو حتى أقرب للمتكاملة لمشهد الأمة المصرية، فلا الشعب فاهم ولا محللوه وصفوته قادرون على الفهم، ولا حتى حكامه المتمثلون فى مجلس عسكرى أو حكومة قادرون على الفهم والتصرف على أساس حتى الحد الأدنى من الخيال السياسى والاقتصادى والمجتمعى الذى يسمح بما نطلق عليه ولو من بعيد كلمة الحكم الرشيد. مجريات الأمور فى مصر منذ الخامس والعشرين من يناير تؤكد ذلك دون جدال، فنحن أمةٌ كل يوم فى حال لا علاقة له بما قبله أو بعده.وعليك فقط أن تجرب أن تجلس فى يوم واحد مع صديق أو واحد من جيرانك، ثم تتنقل بين المحطات الفضائية المختلفة والصحف، ثم تتجه إلى لقاء أحد المسؤولين عن الحكم، ومنهم إلى أحد أقطاب المعارضة البارزة، وبعدها تنهى يومك بتصفح التويتر والفيس بوك، وقل لى بالله عليك هل ستصل إلى إجابة شافية قاطعة فى أى موضوع؟! الإجابة بسم الله الرحمن الرحيم محدش فاهم حاجة، ولكن الكل يزعم أنه فاهم بينما ينهى حواره بعبارة بس أنا مش فاهم.
ولأنى أزعم دائما الصراحة مع النفس والاختلاف، فها أنا أبدأ بأنى مش فاهمة حاجة ولا أظن أن ذلك يعيبنى بقدر ما يعيب هؤلاء الذين. يتضافرون فى صناعة مشهد عام ملخبط لا يسمح لهم أو لنا بالفهم.
وخد عندك بعضا من بعض ما لا أفهم:
1 - لجنة الأحزاب أعلنت أن فى مصر الآن 47 حزبا منها 23 قائمة قبل الثورة و23 تم إنشاؤها بعد الثورة، وفى نشرات الأخبار والصحف يعلنون أن 60 حزبا قررت مقاطعة الانتخابات القادمة! طب إزاى، هل تم استيراد أحزاب لمقاطعة الانتخابات؟ وإذا سألت كاتب الخبر نفسه يقول لك مش فاهم، طب حد تانى فاهم؟
2 - صار دعاة الدين سياسيين وصار السياسيون يفتون فى الدين، فمثلاً الشيخ مظهر عاشور إمام مسجد عمر مكرم الذى لم يكن أحد فى مصر يعرف أساساً أن لهذا المسجد إماما صار الإمام سياسيا ووجها إعلاميا، ومرشح الرئاسة حازم أبو إسماعيل صار مفتيا يقرر أنه لو كسب الرئاسة سيُحجب المسيحيات حتى لا يفتن شباب المسلمين!! زاغت بصيرة أهل السياسة وأهل الدعوة فخلطوهم ببعض فلا هم صاروا فاهمين ولخبطونا معهم، حد فاهم حاجة؟
3 - الإخوان والجماعات السلفية كانت لهم خريطة تستطيع دراستها وتحليلها حين كانوا يعيشون فى الظلام تحت الأرض كجماعات محظورة، ومنذ أن برزوا على السطح وفى النور صاروا يلطشون فى بعضهم البعض وفينا وكأن النور قد أعمى أبصارهم بعد طول إظلام، وقد يخرج علينا أحد المحللين بكلام كبير فى التفسير ولكنه عادة ينهى كلامه بعبارة لكن أنا مش فاهم، طب حد تانى فاهم؟
4 - وأكبر المصائب تأتى من حكامنا ومن يقودوننا ممثلين فى المجلس العسكرى والحكومة فكلما فعلوا شيئاً أو اتخذوا قراراً حادوا عنه بشكل أو بآخر بعد فترة، فلا الإعلان الدستورى، ولا قانون الانتخابات، ولا قانون الطوارئ، ولا تجريم الاعتصامات، ولا الشعب والجيش إيد واحدة، ولا شىء من هذا أو غيره من قرارات الحكام يبقى ويُفعّل إلا وتبعه بنقيض مما يؤكد أنهم مش فاهمين حاجة وبيتعلموا فى شعب بأكمله السياسة، فهل حد فيهم فاهم كل حاجة؟!.. وللحق فقد تعبنا ممن يتعلمون فينا أو يُعلمون علينا، وللحق أيضا أكاد وأنا أسير فى شوارع المحروسة أن أجد وجوه ناس تنادى بلا صوت أو بصوت يا ولاد الحلال فى حد فاهم حاجة؟!