قبل يوم السبت 19 مارس 2011 (وهو يوم يستحق حديثا مستفيضا وتفصيليا)، كانت دول التحالف تتحفظ (تعبير دبلوماسى يعنى الرفض) فى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1973، بشأن حماية المدنيين فى ليبيا من قتل كتائب القذافى للشعب الليبى، بدعوى التأكد من عدم وجود "القاعدة" فى ليبيا، قبل صدور القرار بأيام كان القذافى (الساقط والمطارد) يمعن القتل فى الشعب الليبى انتقاماً منهم على انتفاضتهم ضد نظام حكمه العائلى الفاسد، وفيما كانت كتائب القتل تتجه باتجاه مدينة بنغازى (بؤرة ثورة 17 فبراير)، وانتشرت الأخبار عن الاتفاقيات السرية بين "القذافى" والغرب و"المجلس الوطنى الانتقالى"، من أجل منع قوات القذافى من التقدم أكثر شرقاً باتجاه بنغازى وأكدت الأخبار أن هذه الاتصالات تُدار مع "القذافى" بواسطة المسئولين المصريين، ورئيس حكومة اليونان جورج بابانداريو، ودوائر سياسية كبرى فى فيينا ترفض الإعلان عن هويتها، وكان القذافى يضع شرطا لإجراء هذه الاتصالات، وهو الحصول على التزام واضح من الناتو بأن قوات الحلف، بما فى ذلك القوات الأمريكية لن تتدخل فى الحرب الدائرة فى ليبيا، ومثل هذا الالتزام تم تقديمه بالفعل الأربعاء 9مارس بواسطة أمين عام حلف الناتو "أندرس راسموسن"، والذى ظهر فى التلفزيون البريطانى وقال إن "الناتو" لن يتدخل فى الحرب فى ليبيا، خاصة لأنه لا يوجد قرار من الأمم المتحدة يسمح بهذا التدخل، وقبل ذلك بوقت قصير، تردد فى بنغازى أنه قد أقلعت ثلاث طائرات إدارية ليبية من طرابلس توجهت للقاهرة وأثينا وفيينا، الطائرة التى هبطت فى القاهرة كانت تُقل جنرالا ليبيا هو رئيس سلطة الدعم اللوجيستى الليبى، الجنرال "بن على الزاوى"، الذى توجه لمقابلة رئيس المجلس العسكرى وزير الدفاع "حسين طنطاوى" وهذا الجنرال والذى نقل لطنطاوى رسالة من "القذافى"، ورفضت السلطات فى القاهرة الحديث عن مضمون الرسالة وفحوى الحديث الذى دار مع المبعوث الليبى. كما لم ترد يومها أية تفاصيل عن أى مبعوثين ليبيين كانوا على متن الطائرتين اللتين توجهتا إلى أثينا وفيينا، وكان الاقتراح المطروح للنقاش فى العواصم الثلاث، يقول إن "القذافى"، سيوافق على وقف إطلاق النار بشكل غير رسمى مع (المتمردين) ثوار 17 فبراير، مع التزام بعدم شن هجمات أخرى أو دفع قواته المتواجدة بالفعل فى إقليم برقة إلى الأمام، وفى المقابل، يحصل القذافى على ضمانات مصرية ويونانية، تنص على أن يأمر (المتمردون) جميع عناصرهم غربى ليبيا بوقف هجماتهم وتظاهراتهم ضد "القذافى"، وألا يشنوا هجمات أخرى من الشرق، وأن يسمحوا بتشغيل جميع المؤسسات النفطية الليبية المتواجدة فى منطقتهم بشكل سليم، وفى الاتصالات مع القاهرة، طُرح احتمال أن ترسل مصر مراقبين عسكريين مصريين للفصل بين المعسكرين المتقاتلين، وعلى تنفيذ بنود وقف إطلاق النار غير الرسمى، وأضافت الأخبار التى ترددت يومها أن الاقتراحات التى طُرحت على "القذافى" أساسها قائم على التقديرات العسكرية (الإستخباراتية الغربية)، التى تؤكد أن "القذافى" لا يستطيع بقواته احتلال عاصمة المعارضين (الثوار) بنغازى، وكل ما يستطيع فعله عسكريا هو فرض حصار على المدينة التى يقطنها مليون مواطن، وأن يدمرها بالقذائف والقصف الجوى، ومثل هذا العمل سوف يجبر الولايات المتحدة الأمريكية ودول الناتو على إقامة جسر جوى وبحرى لتقديم مساعدات إنسانية لبنغازى، وهى خطوة كان لا يريدها "القذافى"، وفى المقابل أشارت الأخبار إلى أنه فى المرحلة الأولى من المفاوضات قدم "القذافى" قائمة من المطالب بعيدة المدى، مثل الاعتراف بشرعية سلطته كزعيم وحيد صاحب سيادة فى ليبيا، والإلغاء الكامل للحظر على السلاح والعقوبات التى فرضها مجلس الأمن على ليبيا، وكانت جميع المصادر العسكرية الغربية التى كان ينقلها المراسلون الأجانب المنتشرون فى بنغازى مع ذرات الهواء تؤكد على أنه فى حال عدم حدوث تطورات فى المفاوضات فإنه من الواضح أن الوضع العسكرى السائد ميدانيا، والذى لا يشهد حسما واضحا ونهائيا بين كلا الجيشين، سوف يستمر فترة طويلة، كان هذا التحفظ (الامتناع) فى تنفيذ قرار مجلس الأمن مرجعه لسبب محدد (ويكاد أن يكون وحيدا) هو التأكد من وجود أو عدم وجود "القاعدة" فى ليبيا حتى لا يصب تنفيذ التحالف الغربى والناتو لقرار مجلس الأمن فى طاحونة "القاعدة"، فى هذه الأيام المجيدة كانت بنغازى تعج بـ(المراسلين) الأجانب من كل الجنسيات وبمختلف الملامح وقد تسلح كل منهم بكل الجدية بالرغم من الابتسامة الدائمة وبكل عدة الشغل (كاميرات فيديو وفوتوغرافيا، لابتوب- محمول يتصل بالقمر الصناعي، ثريا، ساعات!! جاكتات أشبه بالدروع، و ...و ... إلخ)، والكل يسأل بشكل مباشر وغير مباشر سؤالا محددا: "هل للقاعدة وجود فى بنغازى وسط ثوار 17 فبراير؟" كنت أحاول أن أجد إجابة لنفسى عن هذا السؤال، كنت المستشار الصحفى للمركز الإعلامى لثورة 17 فبراير، وكان جميع المراسلين الأجانب يسألوننى بوضوح نفس هذا السؤال باستمرار وإلحاح، ولم أكن أجد أية إجابة عنه لا لنفسى ولا لهم، غير أنى وجدت الإجابة ذات يوم بكل وضوح وصدق وصراحة (ربما كانت مصادفة مقصودة) فى ليلة كان الإجهاد قد تمكن منى فأصر صديقى الشاب ذو اللحية الكثة (وهو أقرب الأصدقاء إلى قلبى وعقلى وكان القذافى قد قتل أباه الضابط فى مجزرة سجن أبو سليم)، أن يوصلنى بسيارته إلى فندق "تيبستى"، حيث كنت أقيم، قبل أن نصل إلى الفندق توقف بالسيارة على شاطئ البحر وجلسنا على سور الكورنيش وإذ به يفاجئنى بنفس السؤال فأجبته بأنى لا أملك أية إجابة فقال بكل جدية بأنه هو من سوف يجيب عن هذا السؤال ويجب أن أنتبه لإجابته جيدا، لأنه لن يتحدث معى ولا مع أى أحد فى هذا الأمر مرة أخري، وسألنى: "هل تعرف نعمان بن عثمان؟" أجبته بالنفى فقال: هو أساس الاتصال بالقاعدة وهو الآن مقيم فى بريطانيا وكان واحداً من أعمدة التنظيم الجهادى الليبى "الجماعة الليبية المقاتلة" بل كان عضو مجلس شورى الجماعة وكان من ضمن الشباب الليبيين الذين ساهموا فى القتال بأفغانستان إلى جانب "جلال الدين حقانى"، حيث كانت "الجماعة الليبية المقاتلة" تتخذ من الحدود الأفغانية الباكستانية مقرًا لها، والتى كان لها مجموعات تقوم بتنفيذ عمليات عسكرية داخل ليبيا، ومن أفغانستان انتقل "بن عثمان" إلى السودان ومنها إلى بريطانيا سنة 1995 بعد أن انتقد علنًا فى رسالة مفتوحة أيمن الظواهرى فى نوفمبر 2007، بعد إقناعه قادة جماعته السابقة المسجونين بالدخول فى مفاوضات سلام مع النظام الليبى وفى الوقت الذى أعلن فيه أيمن الظواهرى انتساب الجماعة لتنظيم القاعدة، وفى نوفمبر 2007، أطلقت الحكومة الليبية سراح 90 من أعضاء الجماعة من السجن (كان من بينهم عبد الحكيم بلحاج رئيس المجلس العسكرى الآن فى طرابلس)، وبعد عدة أشهر فى وقت لاحق "وقيل إنهم تخلوا عن العنف"، كانت الجماعة الليبية المقاتلة قد انخرطت فى القتال صفًا واحدًا مع تنظيم القاعدة ضد السوفييت والمجموعات الأفغانية المعادية لطالبان، إلا أن ثمة تباين فكرى حال دون اندماجها مع القاعدة، وذلك لأن الهدف الأول للجماعة الليبية هو إسقاط نظام الحكم فى ليبيا، بينما كانت أولويات "بن لادن" و"أيمن الظواهرى" تتجه إلى أهداف أخرى لا تساعد على تحقيق الجماعة الليبية لهدفها فى القضاء على القذافى، إلا أن الاحترام المتبادل كان يسود العلاقة رغم هذه الخلافات، لكن نظام "القذافى" استطاع احتواء الجماعة عن طريق "سيف بن القذافى" وبعض معاونيه وحلفائه من جماعة الإخوان المسلمين أمثال "على الصلابى" الذين استخدمهم دائما "سيف بن القذافى" لتثبيت نظام حكم أبيه، ومن المؤكد أنه لا وجود لـ(القاعدة) فى ليبيا لكن سوف تبقى هناك بعض المخاوف من عودة "الجماعة الليبية المقاتلة"، اللهم إلا إذا كانت "الجماعة الليبية المقاتلة" قد اقتنعت بالتوجهات الديموقراطية لثورة الشعب الليبى المجيدة التى انطلقت من شرق ليبيا فى 17 فبراير 2011 لتعم ليبيا كلها شرقا وغربا وجنوبا وشمالا لتحقق الخلاص النهائى والانعتاق الكامل للأبد لليبيين من أسر نظام حكم مستبد فاسد.