لا تغض بصرك عما يحدث بين القضاة والمحامين من جانب، وبين المفتى والحوينى من جانب آخر، فالنظرة الأولى على تلك القضية لك، والثانية بالتأكيد ليست عليك، أما التركيز مع عوراتها فهو ليس ذنبا، فالنظرة هنا ليست سهما من سهام إبليس بقدر ما هى كشاف نور يفضح أقبح عيوب هذا الوطن، ويكشف السوس الذى يتسلى على عظامه وأعمدته الرئيسية.
التركيز مع تفاصيل الأزمتين يشخص أوجاع الوطن، ويكشف لك أن مكان الوجع الحقيقى هناك عند النخبة أهل الفكر والحل والعقد، وليس عند البسطاء من الناس الذين يعايرهم الإعلام ليل نهار بمظاهراتهم الفئوية التى تطلب 20 جنيها زيادة فى راتب قد تنقذ أسرة من النوم بدون عشاء لمدة أسبوع على الأقل، بينما لا يلتفت أبدا إلى صفوة المجتمع -محاميه ومستشاريه ورجال دينه- الذين أشعلوا البلد بمعارك لا طائل من ورائها إلا مجموعة من المكاسب الشخصية والفئوية وقليل من «البرستيج» والحصانة التى تسعى كل طائفة لإضفائها على أجوائها.
وإن كنا قد أفضنا من قبل فى الحديث عن أزمة المحامين والقضاة وسقوط أخر أقنعة جناحى العدالة وظهورهم كما العامة المتعاركون فى موقف ميكروباص، فإن الفاجعة أكبر والمصيبة أعظم مع فتنة الحوينى والمفتى، فلا نحن أمام صراع فكرى، أو إشكالية نظرية، ولا نحن أمام حماسة طغت على حوار ما، أو غضبة بين راكبى أتوبيس واحد بسبب أولوية الجلوس، نحن أمام خناقة من نوع آخر تعمد التيار السلفى أن يسكب الكثير من بنزين الخلاف على نارها، ليمارس المزيد من استعراضات العضلات التى بدأها مؤخرا، وكأنه يريد أن يضع نفسه فى سباق ونطاح مع مؤسسة الأزهر.
ربما قد تمتلك بعض الملاحظات على لجوء المفتى للقضاء لحسم معركته مع الحوينى، ولكن قد تتلاشى ملاحظاتك هذه إذا قلنا إن اللجوء إلى القضاء كان الحل الأمثل لأن ما قاله الشيخ الحوينى وعدد من مشايخ السلف عن المفتى يدخل تحت بند السب والاستهزاء العلنى، وليس الخلاف الفكرى الذى يمكن حله بالحوار والنقاش، وأنت لا ترضى لمفتى مصر أن يدخل فى حوار أو جدال من هذا النوع، أو يصبر على بلاء بهذا الشكل، وبالتالى كان اللجوء إلى القضاء حلا أمثل على الأقل لإثبات حق الاعتراض.
الأزمة تجلت نواياها بوضوح أكثر حينما ذهب أنصار الحوينى بالآلاف أمام محكمة كفر الشيخ وهتفوا: «ياحوينى فوت فوت على جمعة بكرة يموت»، وهو هتاف لا أعتقد أنه يصدر عن رجال دين، ويؤكد أن المعركة ليست لوجه الله أو العلم.
الأمر الأخير والغريب فى تلك القصة وفى هذا الهتاف، أن أنصار التيار السلفى هم أصحاب الكلمة الشهيرة «لحوم العلماء مسمومة»، وحينما يتعرض أحد بالنقد أو حتى بطرح الأسئلة حول الشيوخ تجدهم قد انتفضوا ورفضوا الفكرة واعتبروا الناقد أو طارح الأسئلة «رويبضة» لا يرقى لأن يتكلم عن الشيخ لأنه لم يصل إلى علمه، بالإضافة إلى كلام آخر كثير عن ضرورة احترام العلماء والخلاف معهم بالحسنى، احتراما لمكانتهم ومقامهم وعلمهم ولقول النبى صلى الله عليه وسلم «العلماء ورثة الأنبياء»، وهى التعاليم التى تجاهلها بعض السلفيين تماما فى التعامل والاشتباك مع الشيخ العالم على جمعة ليأكدوا أن ميزان جزء من التيار السلفى فى مصر يتبع الهوى وليس الحق، لأنه يكيل بمكيالين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة