لستُ أعلمُ إن كان الأمير «فيليب مونتباتن» ينزعج حين يُذكر اسمُه فى الإعلام مسبوقًا بعبارة: «زوج الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا»، كأنما كلُّ هويته فى الحياة أنه: «زوج الملكة». لكننى أعلم أنه دائمًا ما يتندّر على ذلك حين يُسأل عن عمله، بقوله مازحًا: «أعمل زوجًا للملكة!»، لأن السخرية من النفس أيسرُ الطرق وأرقاها لدحض سخرية الآخرين منّا. البريطانيون لا ينعتون الأمير فيليب بـ «زوج الملكة»، لأن المرأة أعلى شأنًا من الرجل أو أحطُّ. فقيمة الإنسان هناك بعمله وسلوكه، لا بنوعه. والمرأة لديهم ليست عورة، ولا ناقصة عقل. كلُّ ما فى الأمر أن وظيفة «الملك» أهمُّ من وظيفة «الأمير». والتراتب الوظيفىّ له احترامه لديهم، دون النظر إلى «النوع» الحامل للوظيفة. والأمير يعلم هذا ويحترمه، ويحترم زوجته الملكةَ، مثلما تحترم الملكةُ زوجَها وتقدره. ولكن العرب يسخرون من تلك الثقافة، معتبرين الرجلَ أرقى من المرأة وأعلى شأنًا، مهما كان، ومهما كانت! فلو حدث وتزوجت أستاذةٌ بالجامعة من بلطجىّ جاهل لا «يفك الخط»، ربما تجده يتعالى عليها «بذكورته»، وقد يهينها ويهين رسالتها الأكاديمية، ضاربًا صفحًا عن الهامات العالية التى تنحنى احترامًا لزوجته فى المؤتمرات العلمية والمحافل الدولية تقديرًا لدروها العلمىّ التنويرىّ الذى تقدمه للإنسانية. ترفضُ العربُ تعريف: «زوج الست»، لأنهم لم يتعلّموا إلا ثقافة: «حرم الأفندى». ومع تحفظى على فكرة أن المصريين عربٌ؛ ذاك أننا مصريون أولادُ مصريين ولسنا عربًا، إلا أننا، نحن المصريين، تعلّمنا من العرب تلك الثقافة، فغدونا نكره فكرة تفوق المرأة على الرجل مثلما يكرهها العربُ. نسينا أن أجدادنا الفراعنة العظام توّجوا المرأة ملكةً وقائدةً. وفى الميثولوجيا طوّبوها أمَّ الآلهة: «موط»، والإلهة المتربعة على عرشها: «إيزيس»، وربّة القمر: «خونسو»، وربّة الولادة حامية الأقصر: «إيبة»، وربة الحقّ والعدل: «ماعت»، التى تحاسب الموتى. نسى المصريون كل ذلك. لكن، والشكر لله، يبدو أن ثورة يناير قفزت بنا قفزةً حضارية وتنويرية هائلة، فغدونا لا نستحى من نعت الرجل بدلالة المرأة. صرنا أكثر تحضرًا ورقيّا من البريطانيين «المتخلفين الرجعيين»، وصار رجالُنا المستنيرون لا يخجلون أبدًا حين يُكنّى أحدُهم بـ: «زوج الست»! هذا ما شهدته الدعايا الانتخابية للبرلمان مؤخرًا، حين وُضعت «وردةٌ»، كصورة إحدى المرشحات بدلاً من وجهها، ثم سرعان ما استُبدِلت الوردةُ بصورة زوجها مكتوبًا تحتها: «حرم الأستاذ فلان الفلانى»، مرشحة عن دائرة كذا، حزب كذا. صحيحٌ أن الفكرة شديدة التناقض بين السلوكين: البريطانى والمصرى، حيث الملكة إليزابيث لا تخجل من وجهها فتخرج على مواطنيها وتتحدث إليهم وتشاركهم احتفالاتهم وهمومهم، ولا يخجل شعبُها «المحافظ» منها، بل يبجّلونها ويفخرون بأن امرأةً محبوبة مثلها تحكمهم وتضعهم على رأس دول العالم المتحضر، بينما لدينا، فى مصر العريقة التى تقفُ على رأس التاريخ، والتى كرّمت المرأةَ منذ آلاف السنين، لا نخجل أن نستورد ثقافة صحراوية بدوية لا تشبهنا، تجعلنا نُخفى المرأة ونخجل منها كما نخجل من عوراتنا. المهم أن المرأة أخيرًا خرجت من الشرنقة وترشّحت للبرلمان، وهذا ممتاز جدّا. نرحب بها نائبة عن شعبها، ولو عبر صورة زوجها. لكن من حقّنا، نحن الشعب، أن نتعرف إليها أولاً، قبل التعرّف إلى زوجها، وأن نسمع صوتها، الذى سيكون صوتنا، قبل أن نُنصت إلى صوت زوجها وهو يقدّمها لنا قائلاً: «المدام، الجماعة، حرمى المصون»، وأن نقرأ فكرها هى، ذاك الذى لن نقرأه إلا من خلال كلامها، الذى سيصير كلامنا جميعًا، نحن شعب مصر.
كيف لنا، كشعب، أن نثق فيمن لا يثق فينا؟! وجوهنا هى بطاقة تعريفنا التى منحنا إياها اللهُ لنتمايز عن بعضنا البعض، ولا نختلط. نحن المصريين لا نخجل من وجوهنا، بل نتأمل فيها معجزةَ الله الكبرى التى جعلتنا نحتلف عن بعضنا البعض من خلال اختلاف ملامح محدودة: عينين وأنف وفم وجبهة، تقع فى مساحة محدودة: 20 سم × 20 سم، هى مساحة الوجه، فلا يتطابق اثنان، ونحن مليارات من البشر مضروبة فى ملايين من السنين هى عمر الأرض!!! معجزة لا تُصدَّق!! إذا كنا، نحن الشعب المصرى، نثق فى السيدة البرلمانية ونكشف لها وجوهنا لكى ترانا وتتعرف همومنا لتساعدنا على تجاوزها، فكيف لها ألاَّ تثق فينا وترانا ذئابًا خاطفة سننقضُّ عليها لو شاهدنا وجهها!
دائمًا ما أقول إن للمرأة أعداءً ثلاثة تعوّق تقدمها: المجتمعُ الرجعىّ، الرجلُ غير الناضج، سوءُ تأويل النصّ الدينى. فالمرأة تولدُ إنسانًا، لكن المجتمعَ المتخلف يجعلها امرأة، كما تقول سيمون دى بفوار. والرجلُ الناقص غير الناضج يرى فى نجاح المرأة جرحًا لذكورته. والظلاميون يحقّرون من المرأة بسوء تأويل النص الدينى على هواهم، فيجعلون منها «شيئًا» يُحازُ، ضمن متاعه وأشيائه. فإن كان للمرأة أعداءٌ ثلاثة، فلمَ تجعل من نفسها عدوّا رابعًا بتواطئها على نفسها مع أعدائها الثلاثة؟!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة