عندما يتكرر الحدث فى التاريخ يصبح مأساة، وفى المرة التالية يصير ملهاة ومضحكة، وكلما تقدمنا خطوة نعود إلى نفس الجدل مثلما كان يفعل حكماء بيزنطة عندما كانوا يتجادلون جدلاً ويطرحون أسئلة من نوعية: «كم من الملائكة يقفون على سن الدبوس؟»، وكان الغزو العثمانى على أبواب المدينة. ومن الجدل القائم الآن نكتشف كيف تتسع المسافة بين التيارات السياسية وبعضها، وبالرغم من امتلاء ميدان التحرير إلى آخره بالمتظاهرين يوم الجمعة، لا يمكن القول إن هذا هو نفسه ميدان «مصر» الذى أطاح بنظام متسلط تمهيداً لبناء نظام أكثر عدالة ومساواة. وبدا أن التخلص من تأثيرات النظام السابق، أصعب من إسقاط النظام.
وامتدت خيوط الشك بين التيارات وبعضها، وأصبحت عملية استعراض أكثر منها عملية بحث عن المشترك الذى يمكن البناء عليه. هذه الأصوات العالية التى ترتفع لا تحمل ثقة بالنفس أكثر مما تحمل شكاً فى النفس وفى الآخرين.
نظرة على حالة السياسة والأحزاب فى مصر تشير إلى أن الواقع لم يتغير، لم يختف الحزب الوطنى تماماً ولم تظهر أفكار جديدة، وإنما صرخات وإعلانات ومؤتمرات بلا اقتراحات يمكنها أن تجذب الأغلبية الصامتة للمشاركة.
كنا نتصور الخلافات مجرد استمرار لأعراض النظام السابق، لكن الخلافات تتسع يوميا من دون مؤشر على مولد النظام الجديد. رأينا كيف تحول ميدان التحرير إلى ميدان لنشر الخلافات وزرع الخصام، بينما كان فى يناير وما بعدها مكانا للبحث عن المشترك فى تصور بناء الدولة. وحتى الخلاف على وثيقة المبادئ الدستورية انتقل من خلاف للإسلامى مع الحكومة والمجلس العسكرى إلى هجوم على الليبراليين امتد ليصبح هجوما حتى على الديمقراطية نفسها التى تحولت بين أيدى بعض الإسلاميين إلى «صنم»، وأصبحت الدولة المدنية من دولة لكل مواطنيها يحكمها القانون إلى دولة للتحلل والفساد الأخلاقى، بينما نرى الدول الحديثة تزدهر بالقانون والمساواة والتقدم والعلم.
والخلاف بين دعاة الدولة المدنية والدولة ذات المرجعية الإسلامية وارد لأنه خلاف فى التصورات، لكن الأمر ينذر بحرب تجاوز الخلاف إلى محاولة الإقصاء والمنع. وقد تحول ميدان التحرير مع البعض إلى ميدان تهديد وليس ميدانا للتفاهم حول شكل المستقبل.
لقد كان أخطر ما فعله النظام السابق أنه أفقد الناس ثقتها فى نفسها وغيرها، ولا تزال عقدة عدم الثقة قائمة، التيارات الليبرالية والإسلامية لا تثق فى بعضها ولا فى غيرها ولا فى نفسها، ولا فى السلطة القائمة، الأمن أو المجلس العسكرى. وأزمة الثقة هى المشكلة التى تحتاج لعلاج وتقف حاجزا أمام أى حياة سياسية سليمة. وعلى هؤلاء أن يعترفوا بأن أياً منهم لا يمكنه النجاح وحده وأن المستقبل يتحمل الخلاف فى الرأى والتصورات.
فالديمقراطية ليست صنماً إنما التسلط هو الصنم الذى يجب علينا تحطيمه والسعى ألا يعود.