أحد أبرز أمراض النظم الأبوية والبطريركية، مرض المازوكية masochism، وهو نوع من اضطراب الشخصية، يدفع الإنسان إلى إيذاء نفسه لفظيا أو جسديا، بوعى أو بدون وعى، ويؤكد علماء النفس السياسى أن النظام الأبوى والتنشئة الاجتماعية والسياسية، تدفع الأفراد أو الشعوب إلى إيذاء أنفسهم أو أوطانهم، للفت الأنظار إليهم كضحايا يستحقون العطف والاهتمام. هذه العدوانية تجاه الذات أو الدولة ارتبطت مؤخرا ببروز ظاهرة قطع المواطنين المحتجين أوصال الوطن، من طرق برية أو سكك حديدية، والاعتداء على منشآت الدولة، دون مراعاة أنها ممتلكات عامة.
بدأت تلك الظاهرة فى 15 أبريل 2011، حينما تمرد أهل قنا ضد تعيين «المحافظ القبطى»، حتى استجاب المجلس العسكرى والحكومة إلى مطالبهم، وصولا لآخر حادث تم رصده فى 14/11/2011، عندما قطع بدو أبو رديس طريق شرم الشيخ القاهرة الدولى، احتجاجا على عدم تعيين وزارة البترول 150 شابا من شباب البدو فى شركة بترول بلاعيم.
ما بين 15 أبريل و13 نوفمبر حوالى 210 أيام، ووفق ما تم رصده من الصحف قام المصريون بقطع الطرق البرية والحديدية 254 مرة، وبتحليل تلك الحوادث وجد أن 60% منها قامت بها قوى قبلية «70% منها فى الصعيد- 30% فى سيناء»، و18% كانت لأسباب اجتماعية وفئوية، مثل أزمات الخبز، والبنزين، والترقيات، والتعينات .. إلخ، و15% ذات بعد طائفى، مثل قطع أقباط منشية ناصر الطريق بعد هدم كنيسة الشهيدين فى أطفيح، وغيرها من الحوادث الطائفية، و7% لأسباب مختلفة، بعضها لا يخلو من طرافة مثل قطع الآباء «المطلقين» طريق صلاح سالم أمام مشيخة الأزهر، احتجاجا على قوانين الرؤية.
قطع شارع رمسيس أمام البطريركية المرقسية بالعباسية، احتجاجا على عدم التصريح للأقباط بالزواج الثانى. إننا أمام ظاهرة يومية «254 فى 210 أيام»، فى ظل غياب تطبيق الدولة للقانون مع من يرتكبون تلك الحوادث، والأغرب أن أجهزة الدولة اعتادت الاعتداء على الضعفاء مثل المسيحيين فى ماسبيرو، أو المصابين وأهالى الشهداء مثلما حدث فى التحرير مؤخرا.
أخطر ما يرتبط بهذه الظاهرة هو رفض المتمردين أحكام القضاة، وتطبيق القانون بأنفسهم، مثل قطع الطريق الدائرى بجوار صفط اللبن، ومطاردة متهمين بسرقة التوك التوك كان القضاء أفرج عنهم، وتعليقهم على الأشجار، وتطبيق الحدود عليهم، أو تمزيق بلطجى دسوق، والتمثيل بجثته، وفى تلك الحالتين «سادية» غريبة على المصريين، وصولا لرفض وجود المحاكم فى سيناء، مرورا بفوبيا العداء المتبادل بين الشرطة والشعب، ومحاولات تدمير كل ما يرتبط برموز الدولة الأبوية السابقة، والعودة إلى الانتماءات الأولية العرقية الطائفية أو القبلية «يلاحظ شعارات النوبيين بحق العودة لوطن الآباء والأجداد على البحيرة» أو «رفع الأقباط للصلبان، أو السلفيين علم المملكة العربية السعودية».
بالطبع هناك فرق بين الشباب فى التحرير مؤخرا، وهذه الظاهرة، كما أن المصريين ليسوا جماعات من المرضى النفسيين، لكن 30 عاما من حكم مبارك وعائلته والأقلية المالية المتحالفة معهم، جعلت الشعب المصرى يفقد ثقته فى تلك الدولة، ويتعامل معها بخبرة التعامل السابق مع المماليك، أو الغزاة الاستيطانيين العثمانيين، وشاهدنا اللامبالاة والاحتجاج بالزبالة، واللجوء للسماء، وبعض خيبة الأمل فى مثلث النخب العسكرية، والدينية، والمدنية. بعد ثورة 25 يناير شعر المصريون بالتهميش الإنسانى مرة أخرى، وطفت على السطح ظاهرة إيذاء الذات والوطن، وقطع الأوصال والطرق للفت أنظار سكان القلعة الجدد فى المحروسة، خاصة ببغاوات أقفاص برامج «التوك شو»، وكل من تبقى من أنصار النظام الأبوى، سواء من أصحاب الكابات الكاكى، أو أصحاب الجلاليب واللحى، أو ذوى الياقات البيضاء. لقد أدرك المصريون سريعا من هم سارقو الفرح، فعادوا إلى انتماءاتهم الأولية فى مواجهة من يجهلون كيفية إعادة صياغة الاندماج الوطنى من جديد على قاعدة «خبز - كرامة - حرية» وليس بناء على شعارات مثل «الإسلام هو الحل»، و«آسفين ياريس»، أو الموالسون لحكم العسكر، أو الذين يستخدمون الديمقراطية كأسلوب وليس كقيمة. أخشى ما أخشاه أن يقطع المصريون الطريق على كل هؤلاء جمعيا، إما «كرسى فى الكلوب» أو «التصويت الانتقامى».