فاطمة ناعوت

طيارة ورق لا تعرف الخرائط

الثلاثاء، 08 نوفمبر 2011 04:03 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
منذ اكتشفتُ أننى أُفضّلُ الطائرةَ الورقية عن الطائرة المعدنية، وأحب النسرَ أكثر من القطار، وأرى الشجرَ الدغلى الأشعثَ أجملَ من أشجار الميادين المشذّبة المنمقة، ومنذ اكتشفتُ أن شَعر المرأة الغجرىَّ الأجعدَ أكثرُ فتنةً منه حين تعبثُ به أصابعُ مصفّف يعقصُه فى شينيون أنيق ينتمى إلى عصر الباروك ولا ينتمى لعصرنا، وأن قميصًا من الكتّان المكرمش أجملُ فى عينى من فستان حريرى بكرانيش وأذيالٍ ودانتيلا من العصر الفيكتورى، ومنذ ارتقى وعى لأفهم أن نعيقَ الغراب ونقيق الضفدع وهزيم الرياح لا يخلو من جمال كزقزقة العصفور وخرير الماء وحفيف الشجر، اكتشفتُ أن مفهومنا القارَّ المطمئن عن الجمال قاصرٌ وضيّقٌ وساذج، وبحاجة إلى مراجعة. للجمال منابعُ ودروبٌ شتى لا تخطر ببالنا، فقط لأن أسلافنا منذ الأزل قد سكّنوها فى خانة القبيح، وفقًا لمنظومة ثنائية بالية تقسّم العالم إلى: أبيض، أسود- جميل، قبيح، حلوٌّ، مرّ... إلخ، غافلين أن بين الأبيض والأسود ملايين الألوان والدرجات والنغم، «الطيارة الورق» بكل جنونها وفوضاها حين تطير دون قانون سوى مشاكستها الراقصة لتيارات الهواء، بذيلها الذى من قصاصات كراساتنا الملونة، وعُصياتها الخشبية النحيلة التى نجمعها عصا عصا ونحصيها كما تحصى عجوزٌ بخيلةُ حُليَّها، بحبلها الطويل الذى يصبو إلى الله فى عليائه، كل هذه الفتنة، فى مقابل الطائرة المعدنية الثقيلة التى تحمل جالوناتِ نفط ومؤنًا وحقائبَ وأوزارًا وصراخَ أطفال وتململاتِ نساء وضجرَ رجال، لتمشى فى خطوط جوية مبرمجة محسوبة سلفًا بالدقيقة والثانية، والنسر الذى يجوب السماء، يتماوج جناحاه فى أناقة ويلوى عنقه النحيلَ لينظر بكبرياء من علٍ بعينه الحادة الجميلة، ثم يهبط فجأة ليقتنص فريسته فيصعد بها إلى حيث مكمنه فى جوف جبل، فى مقابل القطار البليد الذى مأسورٌ بقضيبين مرسومين فوق خارطة المدينة، لا يحيد عنهما إلا حينما يعنّ له أن يصنع كارثةً لكى تنشر الصحفُ صورتَه فى الغد وسط نهر من دماء المغدورين الذين راحوا ضحية شطط قطار قرر أن يمارس بعض الجنون ويتحرر من قضبانه. حينما برحتْ رأسى، إلى غير رجعة، كل تلك «الأناقات» القديمة الرصينةُ القارّةُ المطمئنة إلى ثوابتِها، لتحلَّ محلَّها هذه الفوضى والجنون والحياة، عرفتُ وقتها أننى بصدد البحث عن طريقة جديدة لكتابة القصيدة، قصيدة لا تمشى على عكّازين، مثل شطرى الخليل، ولا تحجلُ كما بيدقٍ فوق مربعات شطرنج، كما تفعيلاته، بل قصيدة أكثر حريّة وجموحًا وجنونًا وحياة.
الطريفُ أن محاضرةً فى العمارة كانت السبب وراء بحثى عن أسلوب جديد للقصيدة، دخل الأستاذ يومًا ليقول لنا: يا أبناء الفرقة الثالثة / عمارة، كل ما علمناكم إياه فى السنوات الماضية من جماليات السيمترية، التماثل، والاتزان التكوينى والتناغم بين الكتلة والفراغ والمونو-تونية والهارمونية والإيقاع البصرى ونقاء الطراز (إذ لا يجوز الجمع بين القوطى والكورنثى، أو الفرعونى والإسلامىّ مثلا فى بناية واحدة) إلى آخر المنظومة الجمالية التى تعلمتموها على أيدينا، كل ذلك just cast away ، يعنى ألقوا بها من النافذة وانسوها! فما علمناكم إياها إلا تمهيدًا لمحوها من رؤوسكم اليوم. علمناكم القانونَ لكى تكسروا القانون، دربناكم على النظام لكى تفجروا النظام، علمناكم القاعدةَ لكى نقول لكم اليوم أن لا قاعدةَ للفن والجمال، ثم راح يشرح لنا الخطاب ما بعد الحداثى من جماليات التنافر وإستاطيقا القبح والتشظى واللا مركزية وهدم الإيقاع وكسر السلطة ونبذ الثنائيات ونقاء النوع والواحدية انحيازًا للتجاور والتعدد.
هنا تبدّلت رؤيتى الجمالية، وبدأت رحلتى من الإيمان للشك فى الثوابت الجمالية والشعرية لا سيما عمود الخليل الذى رسخ 1500 عام كأنما هو الأبد! كذلك رؤيتى المضمونيةُ بدأت تضجر من المجازات المهترئة التى حشوا بها رؤوسنا فيما يشرحون المنجز الشعرى العربى.. جميلة تلك الجماليات؟ نعم، بالطبع. لكن جمالها استُنفد مع الزمن. مثلما لا ننكر جمال نساء الباروك بفساتينهن المزركشة صارخة الألوان، لكن الجينز الباهت يناسب أكثر حياتنا المشحونة بالتعب. لم يعد يُغرى الشاعرَ استلهامُ القمر والشمس والنجوم. فالقمرُ كاذبٌ يعكس ضوًءا ليس له. والشمسُ غيرُ عادلةٍ تُلهب مناطقَ بقيظها، وتضنُّ بشعاع دفء واحد على بقاع أخرى. والنجومُ التى استلهمناها فى قصائدنا غيرُ موجودة بل برحت مواقعَها منذ زمن أو انفجرت، وما نراه ليس إلا صورتها القديمة! كيف نكتب عن كل هذه الأكاذيب بينما أمامنا الإسكافى والشحاذ وعبيطة القرية؟ المتعبون والمهمشون والمأزومون؟ لم يعد الفارسُ مُلهِمًا لأن الفرسانَ والزعماء خربوا حياتنا. ويئس الشاعرُ من إصلاح العالم، فهبط من عليائه فوق الأوليمب وحطَّ رحاله على الأرض ليعلن أن العالمَ جميلٌ هكذا بكل فوضاه وعبثيته، وأن لا إجابات لديه على أسئلة الناس، بل لديه مزيدٌ من السؤال.
«من محاضرة حول الشِّعر بالمركز الثقافى العربى السويسرى بزيوريخ».








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة