إبراهيم داود

محفوظ

السبت، 10 ديسمبر 2011 03:55 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
غدًا يمر قرن كامل على مولد نجيب محفوظ، وكنت أظن أن القائمين على حكم البلاد قادرون على استثمار هذه المناسبة للاحتفال بمصر المبدعة، والتى تتعرض مصابيحها لنبال الجهلة، وتنهال على خضرتها رمال كثيفة توشك أن تغير فى ملامح وجهها.

الذين يهاجمونه فى ذكراه هم الذين حاولوا قتله، وهم الذين لم يقرأوا أعماله التى بذل عمره فى كتابتها ودافع من خلالها عن شعارات ثورة يناير التى جاءت من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.

أرخ الراحل العظيم للروح المصرية بدءًا من مرحلة الارتداد للجذور «كفاح طيبة وعبث الأقدار ورادوبيس»، والتى كان يسعى من خلالها إلى التقاط ما ترسب من الماضى فى الذاكرة الجماعية، كان يسعى «مثل أبطاله» للخروج من المنطقة الضيقة التى أغلقها التاريخ حولنا، الدائرة التى وضع عينيه عليها وراقبها ودرسها وعاشها من بداية سلمها، فى الحارة والزقاق وفى الطرز المعمارية المملوكية والتركية فى خان الخليلى، كان بناءً فذّا، شيد صروحه الأدبية وعلى رأسها الحرافيش بخبرته فى الناس وانحيازه لأشواقهم وثقافته العريضة، كان عنوانًا للتسامح وسعة الأفق والدأب والتماس الأعذار.

حافظ محفوظ على إيقاع خطواته «فى الدنيا الشريرة الفاتنة»، وكان يعرف أن حال البلد لن تصلح إلا «عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة»، شهد خروج الطبقة المتوسطة بعد ثورة 19 إلى الحداثة وعاش حتى شاهد عودتها من الخليج محملة بعادات وتقاليد أخرى، ومع هذا تحصن بفطرته النقية وطفولته البعيدة التى نصبته متحدثًا رسميّا باسم الوجدان.

فى عمليه الأخيرين أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة، ظهر الشاعر والمتصوف نجيب محفوظ، يشير ولا يفصح، يباغت برقة، فى الأصداء دعا للثورة وهو دون السابعة، لأنه ذهب إلى المدرسة كمن يساق إلى السجن محروسًا بالخادمة، بيده كراسة وفى عينيه كآبة وفى قلبه حنين للفوضى، ولكنه وجد المدرسة مغلقة بسبب المظاهرات، فرح وتمنى من الله أن تدوم الثورة إلى الأبد، فى هذا العمل الرائق قدم الأستاذ درسًا جديدًا فى فن الكتابة، مقاطع صغيرة تترك أثر الشعر لا السرد، تأخذك إلى عوالم من عصور مختلفة، لم تكن الحكمة هدفًا ولم تكن السيرة أيضًا، أنت أمام صائغ نخل تراب رحلته الطويلة واستخرج الذهب، ليصنع منه شيئًا مختلفًا ذا قيمة لا تقدر بثمن، يضعك فى كل مقطع أمام أسئلة محفزة للتأمل، أنت أمام رجل مؤمن، قليل الكلام، ابتكر شخصية عبد ربه التائه التى تفتح أقواله وإجاباته عينيك على المساحات الناصعة فى قلبك، فهو القائل «إذا أحببت الدنيا بصدق، أحبتك الآخرة بجدارة»، و«كما تحب تكون»، «الحمد لله الذى أنقذنا وجوده من العبث فى الدنيا ومن الفناء فى الآخرة»، «لولا همسات الأسرار الجميلة السابحة فى الفضاء لانقضت الشهب على الأرض بلا رحمة»، وهو القائل إنه لا يوجد أغبى من المؤمن الغبى إلا الكافر الغبى، وإن أقوى الأقوياء هم من يصفحون، وعندما سأل الشيخ عبد ربه «ما علامة الكفر؟ أجاب بلا تردد: الضجر»، وسأله: كيف لتلك الحوادث أن تقع فى عالم من صنع رحمن رحيم؟ فأجاب بهدوء: لولا أنه رحمن رحيم ما وقعت! وقال للشيخ: سمعت قومًا يأخذون عليك حبك الشديد للدنيا، فرد: حب الدنيا آية من آيات الشكر، ودليل ولع بكل جميل، وعلامة من علامات الصبر، وعندما سأله: كيف تنتهى المحنة التى نعانيها؟ أجاب: إن خرجنا سالمين فهى الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة