أفرزت الجولة الأولى لانتخابات مجلس الشعب ظاهرة جديدة هى «المسيحية السياسية». وللحقيقة فإن هذه الظاهرة ولدت فى ميدان التحرير، مع بزوغ ثورة 25 يناير المجيدة، ولم تلقَ هذه الظاهرة الدراسة أو الاهتمام من المفكرين «الفضائيين»، حيث خرجت جموع المواطنين المصريين الأقباط انخراطا فى الثورة، وبذلوا الدماء من أجلها، رغم مواقف قيادات الكنيسة المحافظة ضد الثورة، وتأخر تأييد رؤوس الكنائس المصرية للثورة إلى ما بعد تنحى الرئيس السابق مبارك.
ورغم ذلك، فقد كسر المواطنون المصريون الأقباط حاجز الطاعة، وخرجوا من خلف أسوار الكنيسة إلى الميدان، ولم يتوقف الأمر على المواطنين المصريين الأقباط، بل شاهدنا قساوسة من مختلف الطوائف تخطوا حاجز القيادات المحافظة، وخرجوا إلى الميدان مثل الآباء اليسوعيين «الجزويت» وليم سيدهم، ورومانى أمين، وغيرهما، والقس سامح موريس، راعى كنيسة قصر الدوبارة، والأب فلوباتير جميل الأرثوذكسى.
وقد يرى البعض أن القمص سرجيوس قد فعل ذلك إبان ثورة 1919، ولكن حينما فعل سرجيوس ذلك كانت الكنيسة ككل- شعبا وإكليروس «رجال الدين» وقيادة- جزءا من الثورة حينذاك، ولم تكن منقسمة على تأييدها للثورة، مثلما حدث فى ثورة 25 يناير.
ومن يدرس الخلفيات الروحية والوطنية لهؤلاء القساوسة على مختلف عقائدهم، سيجدهم ما بين لاهوت التحرير الذى بلوره فى مصر الراحل الكبير الدكتور القس صمويل حبيب، والروحانية الأغناطية، نسبة إلى القديس أغناطيوس، مؤسس الرهبنة اليسوعية، أو اجتهادات سبق أن تكونت فى أسقفية الشباب التى أسسها الأسقف الجليل الأنبا موسى. ورغم تعدد هذه الروافد فإن الثوار المكونين للمسيحية السياسية قد تخطوا الطوائف، وارتبطوا بلاهوت الأرض والثورة.
على الجانب الاجتماعى «الطبقى» فى ذلك المكون الجديد، فإن الأقباط الذين شاركوا فى ثورة 1919 كانوا من الأعيان وكبار الملاك، فى حين أن ثوار 25 يناير من الأقباط ستجد منهم الملياردير الثائر نجيب ساويرس جنبا إلى جنب مع الشهيد مينا دانيال، ابن عزبة النخل، مرورا بمختلف الطبقات الاجتماعية، والرؤى السياسية من المصريين الأحرار الليبراليين، وحتى الأحزاب اليسارية والشيوعية مرورا بيسار الوسط «المصرى الديمقراطى الاجتماعى»، وظلت نسبة كبرى منتمية إلى حركات مثل 6 أبريل أو ائتلافات ثورية.
كل ذلك يؤكد أن المواطنين المصريين الأقباط لم يعودوا «كتلة كنسية صماء» تحت إمرة الإكليروس الكنسى، خاضعة للسمع والطاعة، مثل تنظيمات الإسلام السياسى، خاصة أحزاب جماعة الإخوان المسلمين، والحركة السلفية، بل لم يستدرج الأقباط للتسهيلات التشريعية التى أتاح بها المجلس العسكرى تأسيس أحزاب ذات مرجعية دينية.
وفى الجولة الأولى صوّت الأقباط الحزبيون لأحزابهم، وإلى جانب ذلك تشكلت من الشباب الثورى لجانا للوعى الانتخابى، تكونت خارج الكنائس، وأثرت على الإكليروس وليس العكس، واستطاعت المسيحية السياسية أن تتمتع بحس «برجماتى» حيث تخطت التصويت الطائفى، وركزت على التصويت «المصلحى».
وهكذا نحن أمام ظاهرة جديدة تقوم على:
1 - تأثير المدنيين الأقباط على الإكليروس وليس العكس.
2 - التصويت البرجماتى المرتكز إلى المصالح وليس الديانة.
3 - انتقال مركز صناعة القرار القبطى من المهجريين إلى ثوار الميادين.
4 - توزع الانتماءات القبطية السياسية على مختلف الأحزاب.
5 - سقوط أسطورة السلبية منذ مذبحة ماسبيرو.
إن ظاهرة المسيحية السياسية ولدت من رحم الكنيسة، ولكنها مدنية سياسية ذات مرجعية وطنية، نقلت مركز الثقل الكنسى إلى ميادين الوطن، على عكس ظاهرة الإسلام السياسى التى تنطلق من المسجد لتعود إليه.