عندما أرسل لى الشوية العيال بتوع «6 أبريل» والشوية العيال بتوع صفحة «كلنا خالد سعيد» دعواتهم عن طريق الفيس بوك بالتظاهر معهم فى ميدان التحرير «غداً صباحاً الثلاثاء 25 يناير» لم أكن أنوى النزول فلم تعد الصحة تسمح، كما أن العمر قد تخطى الخامسة والستين واليأس من جدوى التظاهر، ووهن العظام قد تملكا الروح والجسد، لكن هاجمتنى فجأة أغنية «الشيخ إمام» التى كتبها «أحمد فؤاد نجم» وكنا نغنيها دائما فى سجون الطواغيت الفاسدين الخونة الأذلاء ووجدت نفسى أغنى «كل ما تهل البشاير/ من يناير كل عام/ يدخل النور الزنازن/ يطرد الخوف والظلام/ يا نسيم السجن ميل/ ع الشجر وارمى السلام/ زهر النوار وعشش/ فى الزنازين.. الحمام/ من سكون السجن صوتى/ نبض قلبى من تابوتى» فقررت النزول إلى ميدان التحرير على الأقل للمشاركة بالمشاهدة، فى ميدان التحرير لم أر وجها واحدا أعرفه فى الواقع، كل الذين تعرفت على وجوههم كانوا أصدقاء «افتراضيين» لم أر وجوههم إلا على صفحاتهم فى الفيس بوك كأصدقاء افتراضيين لم نلتق فى الواقع مطلقا لكنا كنا نلتقى كل ليلة فى فضاء الإنترنت الواسع وفى صالون الفيس بوك الرحب الذى يسع كل شباب العالم، كانت هذه هى المرة الأولى التى أصافح فيها أصدقائى الافتراضيين الذين حملونى بعد ذلك فوق أكتافهم للهتاف، وبدأت أهتف بلا وعى منى «ثورة.. ثورة شبابية/ مصر طالعة للحرية» و«قومى يا مصر وشوفى حالنا/ سرقوا منا مستقبلنا» ثم أحسست بالألم الشديد يتملك عظام ظهرى، فطلبت من الشباب أن ينزلونى كى أستريح قليلا، وكان هو الذى مد لى يده ليسندنى وينزلنى من فوق أكتاف العيال الأطهار، ونادانى باسمى فتنبهت لوجهه، كان هو «محمد الجبيلى» الفنان التشكيلى صديقى الذى سرعان ما اختفى وسط حشود الشباب، ويجىء يوم جمعة الغضب، وبعد صلاة الجمعة، وفى وسط المظاهرات ألمح وجه «الجبيلى» يلوح لى من بعيد فأرد له التحية.
كنا فى شارع باب اللوق وكنت فوق أكتاف الشباب أهتف ويبدأ ضرب القنابل المسيلة للدموع، فأسقط على الأرض، وقبل أن ألملم جسدى الواهن أجد يدا تمتد لتأخذنى من تحت إبطى، وكان هو «الجبيلى» بوجهه النبيل وشعره الفضى، يساعدنى على الجرى باتجاه شارع «صبرى أبوعلم» ويشتد حصار قوات أمن دولة الفساد للمتظاهرين، ويشتد الهتاف، ويبدأ الضرب، فأحاول الجرى، يساعدنى بعض العيال كملائكة من السماء فأجد نفسى قرب تمثال «عبدالمنعم رياض» والغازات قد أدمت عينى، ولم أعد أرى، وفجأة يصدم وجهى سائل لم أتبينه فى أول الأمر، وتمتد يد تدعك وجهى بهذا السائل فأستطيع فتح عينى لأرى وجهه النبيل، إنه «محمد الجبيلى» ممسكا بعلبة من المياه الغازية، وهو يقدم لى قطعة من البصل، ويطلب منى أن أشمها، فأفعل، فيخف كثيرا تأثير الغاز الذى كاد أن يخنقنى منذ لحظات، وما إن استطعت أن ألقف بعض أنفاس الهواء حتى رأيته يبتعد ليختفى وسط لجة بحر المتظاهرين، «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا» إلا أن «سيدنا الخضر» يرفض صحبة «موسى» النبى.. يفهمه أنه لن يستطيع معه صبرا .. والخضر «قالوا إن اسمه أرميا» لكنه هو الصمت المبهم ذاته، إنه لا يتحدث، وتصرفاته تثير دهشة الأنبياء.. هو النور، صديق ملاك السماء «رافائيل».
خطوته مسافات.. يظهر لمن يحبه فى كل مكان، كل من شارك فى ميدان التحرير رأى «الجبيلى»، لم يبرح ميدان التحرير من البداية حتى مذبحة شارع «محمد محمود»، فجأة يظهر ليأخذ بيد مصاب فى شارع «قصر النيل» ويناول أحدهم قطعة البصل فى شارع «رمسيس» أو يقدم له طوبة ليقذف بها القتلة، أو يجذبك من ذراعك ليبعدك عن طلقات الرصاص فى شارع «هدى شعراوى»، كان نديم الكل فى الظلام، كان يعرف إلى أين يفضى الطريق، حين تبدأه بالسلام يتلألأ فوق ابتسامته غبار كلمات لا يبوح بها، لكنك ترى الفرح فى عينيه، فسلام عليه فى الأولين والآخرين، وعندما تلمع الحجارة فى كف العيال المدافعين عن الوطن، وعندما ترى الأعين المفقوعة مستقبل الوطن، وفى لحظة فيها يروى دم الشهداء العيال عروق الحرية.