طالع طرف عينك أمس خبرا يقول إن العشرات من شباب مصر المعتصمين أمام مجلس الوزراء قد تعرضوا لعملية تسمم واسعة النطاق. وحكاية التسمم كما رواها من عاشها بدأت حينما جاءت سيدة خبأت وجهها بنقاب، ووزعت عليهم الطعام المسموم فى أرغفة الحواوشى، باعتبارها متضامنة معهم، وتريد أن تعينهم على الاعتصام، سرعان ما أثمرت مشاركتها عن آلام حادة فى البطن، وحالات قىء غريبة، وغيرها من أعراض مرضية عنيفة، فاكتشف الشباب أنهم تعرضوا لتسمم مع سبق الإصرار والترصد.
السم إذن هو الحل، فالشباب دماغهم ناشفة، وصحتهم مسعداهم، ولم ينفع معهم قتل بالرصاص، ولا دهس بالسيارات المصفحة، ولا خنق بالغازات السامة. السم إذن هو الحل، ويا لها من طريقة بدائية خسيسة رخيصة، لجأ إليها الجانى المجهول ليتخلص من المعتصمين، بأياد نجسة، وطرق دنسة.
لوهلة ظننت أن ظهور السم كان مفاجئا فى ساحة مجلس الوزراء، لكننى بعد لحظات تيقنت من أن السم فى أبداننا كامن، ومنذ عشرات السنوات يجرى منا مجرى الدم حتى إن لم نشعر به، أو لم تظهر علينا أعراضه الفجة، والحقيقة أننا منذ عشرة أشهر حملنا أرواحنا على أكفنا وذهبنا لنأتى بالدواء لوطننا، وفرحنا بأننا أنجزنا بتحقيق ما ذهبنا من أجله، لكننا اكتشفنا أن الدواء مسموم، ولم يقل لنا أحد أن الدواء به سم قاتل.
سرى السم فى الأبدان، ومنها إلى العقول حتى تشوشت رؤيتنا، وزاغت أعيننا، وأصابنا الوهن والضعف وقلة الحيلة، حتى المفاهيم البريئة لم تسلم من التسمم، فأصبح النضال فُجْرا، والحماسة كِبْرا، والأمان قَهْرا، والحرية عُهْرا، والديمقراطية كفرا. سرى السم فى العروق فتخثرت الدماء، ولا أحد يعرف من السيدة التى وزعته على الشباب، فوجهها ملثم، ويدها باردة، وأصابعها كالصخر تخدش من يلامسها، يبكى خالد سعيد: لست مجرما، فتحكم المحكمة بحكم مخفف على قاتليه، تئن الثورة: أنا بريئة مما ألحقوه بى، لكن لا أحد يسمع، يصرخ مينا دنيال: ارفعوا عن وجهى عجلات المدرعة، فيأتيه استدعاء للمثول إلى المحكمة العسكرية الباطشة، يهتف شهداء 19 نوفمبر: كنا ندافع عن الميدان، وإن كنا نريد اقتحام الوزارة لذهبنا إليها من شارع الشيخ منصور، لأنه أقرب للميدان من شارع محمد محمود، ومعظمنا مات فى الميدان، فيقابل كل شهيد تهمة، فى آخر الليل، يتحدى الشباب دساسى السموم، وينهضون لافظين عن أجسادهم آثارها، ثم يذهبون إلى الميدان هاتفين: غاز.. حواوشى.. العسكر لازم يمشى.