أكرم القصاص - علا الشافعي

أوبِرا كارمن تبهر الجمهور فى عمان

الإثنين، 19 ديسمبر 2011 12:56 م
أوبِرا كارمن تبهر الجمهور فى عمان جانب من أوبرا كارمن
مسقط – محمد سعد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بينما يقترب النصف الأول من الموسم الافتتاحى لدار الأوبرا السلطانية من نهايته، يتهيأ جمهور الأوبرا فى مسقط لحضور أكبر عروض الموسم "تراجيديا جورج بيزيه الشهيرة"، "كارمن" (1875). كتب فصولها الأربعة هنرى ميلها ولودوفيك هيلى من الأوبرا الهزلية مستنديْن إلى الرواية التى كتبها بروسبير ميريميه. وعلى نحوٍ مأساوى توفى بيزيه عند الأداء الثالث والثلاثين فى الثالث من يونيو من العام 1875، ولم يشهد نجاح أحد أكثر الأوبرات شهرة فى الأوبرالى الغربى.

ظلت "كارمن" أحد أكثر عروض الأوبرا أداءً وحضورا فى المسرح الغنائى بأكمله. (يرتبط الدور المهيب لأوبرا كارمن بعدد كبير من المغنين العظام (أمثال ماريا كالاس، فيكتوريا دى لوس أنجلس، جيسى نورمان، إلخ)، كما أنه كثيراً ما يُؤدَّى اللحن الأوركسترالى المستمد منها فى الحفلات الموسيقية. ويوجد هذا العمل أيضاً فى العديد من الإصدارات المسرحية وإصدارات الأفلام، بما فيها مسرحية "كارمن جونز" الموسيقية فى برودواى فى عام 1943 التى لعب بطولتها موريل سميث، وفيلم فرانشيسكو روزى عام 1984 مع بلاسيدو دومينغو وجوليا ميغنس. هذا ويمثل هذا الإنتاج المذهل لدار الأوبرا السلطانية عملا أصيلا بطاقمه الشهير الفائز، حيث أخرجه وصممة المبدع جيانى كوارانتا والحائز على جائزة الأوسكار عن أفضل مصمم مناظر عام 1986 عن فيلم " الغرفة ذات الأظلال"، والعمل بقيادة المايسترو باتريك فورنيليير وأداء أعضاء فرقة الأوركسترا السيمفونية دى ميلانو فيردى.

إن هذا الإنتاج الجديد من أوبرا بيزيه الشهيرة صُمم خصيصاً لعُمان، لا ليكون فريداً من نوعه فحسب، بل ليكتسب أهمية عالمية أيضاً. خشبة المسرح تضفى طابع التأثر والهيبة بمشهد مدينة إشبيلية الذى بدا على هيئة بطاقة بريدية تحيط بها حلبة صراع الثيران الدائرية التى تُفتَح وتُغلَق فى بداية ونهاية كل فصل من العرض. وهناك حشد كبير من الغجر والمهرّبين والجنود والأطفال الدين يستخدمون خيولاً حقيقية على المنصة فى نهاية العرض فى إضافة نوعية لإخراج الأعمال الأوبرالية فى العالم.
وسوف يستمتع الجمهور بوجود إضاءة خاصة ورائعة، عندما يرى تحول الزمن من الصباح الباكر إلى الغسق، ثم إلى المساء عبر مؤثرات مدهشة. وعلى غرار أوبرا "توراندوت" لبوشينى، تبدو أهمية "كارمن" أيضاً فى حبكتها الاستشراقية وفى كونها استمرار للافتتان الأوروبى بالشرق (الذى يُقصد به هنا الشرق الأدنى أو الأوسط، ولكن الوصف ينطبق أيضاً على الأقليات العرقية والدينية الأخرى التى تعيش داخل أوروبا وخارجها مثل الغجر).
مما لا ريب فيه أن الصور النمطية عن الغجر تظهر كلها سلبية على المنصة، مثل الغانيات، المهربين، اللصوص، والمؤمنين بقراءة الحظ ولعب الورق. وهذه الصفات لا تجعل منهم موضوعاً للانجذاب الأوروبى وحسب، بل سببا للنفور أيضاً. حقاً، يدرك دون جوزيه أن كارمن "رمزا للشرّ" وأنها ستقوده فى النهاية إلى حتفه، لكنه يعرف أيضاً أن افتتانه بها قوى جداً حيث إنه يقف أعزل فى مواجهتها وغير قادر على مقاومة شباكها.

الواقعية هى الثيمة الأساسية فى "كارمن" حيث تتكشف الدراما من خلال شخصيات واقعية كالجنود والعرّافين والمهرّبين ومصارعى الثيران. وبخلاف الجوقة التقليدية، يُتوَقَّع من أعضاء جوقة "كارمن" أن يعملوا كأفراد وليسوا كممثلين لأفكار جماعية، حيث يشاركون عمليا فى دفع العجلة الدرامية وحبكتها.
ولكن، من الناحية الموسيقية، فإن الغجر هم العنصر الذى يجعل من "كارمن" عملاً أكثر جادبية وإشكالية لمؤلفه وجمهوره الفرنسى فى القرن التاسع عشر، حين كانت فرنسا تسعى جاهدة لبسط سلطتها الاستعمارية على الشرق الوسط عن طريق تقديمها لأعمال أدبية لفهم الشرق وطبيعته.
المقدمة الموسيقية للفصل الأول هى جزء مما نعتبره لحناً خليطاً، أى مزيجاً من ثلاث ثيمات مهمة تُقدَّم خلال العرض: الأولى هى الكوريدا الحيوية من الفصل الرابع التى تؤسس لثيمة مصارعة الثيران الصاخبة والمساندة فى سلّم " لا " الموسيقى الكبير. وترتبط الثيمة الثانية كثيراً بالأولى: حين تمثل أغنية مصارع الثيران الشهيرة من الفصل الثانى فى سلّم " فا " الكبير. وبعد تكرار اللحن الابتدائي، يتم تقديم ثيمة الظلام المضادة والتى: ترتبط بفكرة "القدر" فى سلّم " رى " الصغير. بموت كارمن ونهايتها المأساوية. ولهذه الثيمة طابع "شرقى" بسبب استخدامها سلالم هارمونية شرقية تنذر بفجيعة كارمن ونهايتها المأساوية.
تعطى كارمن بيزيه تصوُّراً بأنها صارمة وجدلية، جزئياً بسبب جوقتها الفظّة من النساء اللاتى يصارعن ويدخنَّ على المنصة، غير أن السبب الأهم يعود إلى مواقفها العلنية من الرجال، ذلك أنها تتخلّص منهم كزهور ذابلة متحدِّيةً المواقف الأوروبية السائدة آنذاك من الزواج الأحادى التقليدى.
يُضاف إلى ذلك أن مشهد قتل كارمن العنيف على المنصة فى نهاية الأوبرا غير عادى، ولكن ألحان كارمن المتلوّنة هى ما يغرى جوزيه، ويدفعه إلى هجر ميكيلا -شخصية من تأليف بيزيه - ومهنته من أجل غجرية هائمة.
تمكنت جوليا جيرتسفا من نقل أداء قوى لأوبرا كارمن، عبر مزج صوتها الغنى والمثير مع فتنتها الراقصة وحركاتها الغرائبية. هى أيضاً مثيرة للإعجاب فى أغنيتها التى أدتها لجوزيه وهى تغنى بمصاحبة آلة الصنج. وهناك المتنافسان على حبِّها، نيكولاس كافالير فى دور إسكاميلو بشخصيته الكاريزمية المهيبة وصوته المهذب، ومارشيلو جيوردانى فى دور دون جوزيه الذى غنَّى أيضاً "كالاف" فى عرض "توراندوت" بدار الأوبرا السلطانية فى أكتوبر. صوته يتنوع بشكل لامع ويتألق أمتيازا فى طبقته الصوتية العالية بقوة عنيدة لكى يتعادل مع قوة صوت كارمن المنخفض والمثير. إن جيوردانى ينقل إحساساً بحبٍّ مُتقدّ فى "أغنية الزهرة"، حيث يناشد كارمن بيأس أن تحبه إذا ما استسلم لرغباته.
يلعب جوزيه دور شخص فجائعى، جامعاً بين الحب الطفولى لأمه وانجذابه الحسى لكارمن. وتخرج من الظلال كارميلا رميغيو (ميكيلا) التى يتم التركيز عليها فى الفصل الثالث بينما تلهج بصلاتها الحميمة: "أقول ألا شىء يخيفنى" وهى على وشك مواجهة غريمتها الخطرة كارمن.
تأتى تتمَّة العمل كلحن رباعى مؤثِّر يؤديه فريق الممثلين المساند من فرقة أوركسترا جوزيف فيردى بميلانو. يُبقى قائد الفرقة، باتريك فورنيليير الجميع فى تلهُّف من خلال قيادته للأوركسترا بإتقان ملىء بالحيوية الممتلئة بالإلحاح مند الاستهلال الصاخب ومرورا بمشهد الحلبة الدائرية وحتى النهاية، مدعوماً بمقطع الريح القوية. فى رقصة الغجر التى تبدأها كارمن، يبلغ أداء الجوقة أوجَّه فى نوبة من الدوران معزِّزةً من جاذبية الغجريات وشغفهن.
شخصيتا كارمن وميكيلا
ما من شك أن أوبرا كارمن تتوقف على الدور المتلوِّن لشخصية كارمن. فى الفصل الأول، نشهد تدريجياً عجز جوزيه عن مقاومة إغواء كارمن من خلال محاولته تجاهلها وأمرها بعدم التحدث إليه. إن إدراك كارمن لنجاحها فى إغوائه جزء من طبيعتها الغجرية الجامحة، فهى تتظاهر بتجاهل جوزيه مؤكِّدة على أن أغنيتها غير موجهّة إليه، رغم كونها عن "عريف ما" يحبّها.
يتسبب إغواء كارمن فى تسميم جوزيه الذى يعانى حتى نهاية الأوبرا. منذ اللحن الثنائى فى الفصل الأول وصاعداً، يبدأ الجندى الأوروبى رحلة مدمرة تنتهى بمصيره المحتوم- مصير يتطلّب منه، القضاء العنيف على كارمن: سبب دماره.
فى نهاية الأوبرا تُظهر كارمن شجاعة وثقة غير عاديتيْن فى مصيرها عندما تواجه جوزيه فى حلبة مصارعة الثيران. تحذّرها صديقاتها من مقابلته، لكنها تصرّ على إنهاء العلاقة. يهدّد جوزيه بإيذاء كارمن إذا لم تذعن لرغباته، لكنها تقول له بشجاعة:
كارمن لن تستسلم أبداً!
تبدو كارمن للعيان كحلم رومانسى ، لكنها حتماً ليست البطلة الأوروبية الأوبرالية النموذجية التى تضحى بنفسها طائعةً خاضعة. تمثّل هده القوة أزمة لجوزيه عندما تعرض كارمن أن تكون هى من يتحكّم فى مصيرهما معاً، وتمثّل تحدِّياً ليس فقط للطريقة التقليدية التى نشأ بها جوزيه فى قرية فرنسية فى القرن التاسع عشر، بل وأيضاً للتسلسل الهرمى التقليدى والاجتماعى الغربى بأكمله. بسبب تهديدها لجوزيه، تُعدّ كارمن مثالاً خطيرا للمرأة المتسلطة التى فرضت نهايتها من فوق المنصة فى نهاية المطاف.
ثمة طريقة أخرى لفهم كارمن، وهى من خلال ميكيلا، قطبها المضاد. فبخلاف كارمن، ميكيلا تبدو طاهرة، بريئة وسهلة الانقياد، وخاضعة للتسلسل الهرمى الغربى التقليدى وهى يتيمة فى السابعة عشرة ويتم اختيارها كنمودج للبطلة التقليدية المؤمنة بنصرة الخير واندحار الشر.
لكن موسيقى ميكيلا هى من يمثل تقليديتها خير تمثيل. مند المشهد الافتتاحي، تظهر ميكيلا معتنقة القيم الغربية للفتاة "الصالحة" من قرية صغيرة محافظة. إنها تنقل رسالة، ومالاً إضافياً، وقُبلة لجوزيه من أمِّه.او تكتمل شخصية ميكيلا من الفشل عندما تغنِّى لحنها الشهير (أقول أن لا شيء يخيفني). وبخلاف إيقاعات كارمن الغرائبية وألحانها الأندلسية، يأتى لحن ميكيلا كصلاة للرَّب أن يمنحها القوة، وتعبِّر فيه عن قوة إيمانها بأن الرَّب سيساعدها فى محنتها عندما تقول:
سوف تمنحنى القوة
لا تظهر ميكيلا شخصية مهمة فى رواية ميرميه، لكنها تُمنَح دور قوى هنا لإبراز التعادل الدرامى بينها وبين كارمن فى مثلث الحب التقليدى. حبّها الصادق وغير المشروط لجوزيه، طُهرها، وتعلُّقها بأمِّه المحتضرة، كلّها تضاعف من تعاطف جمهورها ضد شيطانية كارمن وأعدائها.
خلاصة تعد أوبرا كارمن لبيزيه واحده من اجمل ما كتب فى المسرح الأوبرالى الأوروبى وتمثل بطلته نموذجا للمرأة المتسلطة التى تهيمن على خشبة المسرح كامرأة غرائبية متمردة من خلال رقصها وأدائها الحسي. رقصها الغجرى يحمل أبعاداً تجذب مشاهدها الغربى. وتملى على جوزيه من أجل المحافظة على النظام الطبيعى.
بصرف النظر عن أصالتها، تبقى أوبرا كارمن التى قدمها بيزيه زاخرة بالألحان والإيقاعات الجميلة التى لا تُنسى. موسيقى بيزيه وموسيقى الغجر تُعدّان الجزء الأساسى فى عرضه الأوبرالى وتجعلانه من أكثر عروض الأوبرا شعبية على مرّ العصور. والآن، يمكن للجمهور العمانى أن يحتفى بهذه التجربة الرائدة وهذا العمل الرائع كواحد من أهم الأحداث التاريخية فى عُمر دار الأوبرا السلطانية - مسقط القصير.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة