فى المشاهد الكلاسيكية لعمليات الاختطاف فى الأفلام العربية، يهجم أفراد العصابة على الضحية، وأول ما يفعلونه هو وضع «عُصابة» على عينه، ليخفوا عنه ملامح الطريق حتى يصلوا به إلى مكانهم المأمون، وبعد ذلك يصبح المخطوف ملك يمينهم، يفعلون فيه ما شاءوا، إن أرادوا نزع «العُصابة» عنه نزعوها، وإن أرادوا نزعها عن عين واحدة فعلوا، وإن أرادوا أن يحتفظوا بها كان لهم ما أرادوا. لا أحد يجبرهم على شىء، فإرادة المختطف مسلوبة، وكل شىء بيدهم لا بيده.
ربما يكون هذا المثال هو أوضح تشبيه لما نمرّ به الآن، فأهل السياسة والحكم فى مصر، الذين هم من طائفة «أبوسبغة السكرة»، يعتمدون على ذاكرتهم العتيقة وأفلام «الأبيض وأسود» ويستعينون بها على قضاء حوائجهم، ونيل أغراضهم، والضحية هنا هى أنا وأنت، ماذا تكون هذه العُصابة التى يضعونها على أعيننا؟
العُصابة الآن فى شكلها الحديث هى فقدان البوصلة، وفقدان المعيار الذى يحكم به الناس على «الصح والغلط»، عبر التشكيك فى مؤسسات المجتمع كله، بداية من القضاء، حتى الإعلام، مرورا بمنظمات المجتمع المدنى، والتيارات السياسية والفكرية، وحتى المؤسسة العسكرية نفسها. ومن آثار هذا التشكيك المستمر جنوح الشعب نحو السلبية المفرطة التى تصل إلى حد التواطؤ، بعد أن تفقد يقينك وترى الكل باطلا، فتنحاز إلى احتياجاتك الأولية مثل الحاجة للأمن والاستقرار، والطعام والشراب، مغلبا إياها على احتياجاتك العليا، مثل تحقيق الذات، وتقدير الذات، والحرية والكرامة، متناسيا أن الاحتياجات العليا هى التى تجعل الإنسان إنسانا، وهى وقود الشعوب نحو التقدم والازدهار، وأنه كلما انخفض سعيك نحوها- ويا للعجب- قل نصيبك من احتياجاتك الأولية، أو انعدم.
متفق معك جدا فى أهمية الاحتياجات الأولية، لأنها ببساطة وبواقعية هى التى تكفل لك الحياة، لكن الاكتفاء بها «فقط»، وعدم النظر إلى ما هو فوقها، يصيب الإنسان بالتبلد، ويفقد جزءا كبيرا من إنسانيته، وأول الطريق إلى هذا الوضع غير الصحيح هو السلبية التى ظهرت آثارها فى هذه الأيام بفجاجة، والناتجة عن التشكيك الدائم فى مقومات المجتمع، وآليات حراسته، ولهذا ترى البعض إن رأوا مواطنا يقتل قالوا: «قسمة ونصيب»، وإن رأوا ليبراليا معارضا قالوا: «مهو كافر»، وإن رأوا فتاة تتعرى بيد العسكر قالوا: «ما هى لابسة على اللحم»، وإن رأوا يساريا يناضل قالوا: «ده فوضوى»، وإن رأوا إسلاميا ينسى كل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويتذكر فقط مقولات الفتنة، واستجداء الحكام قالوا: «ونعم بالله».
«الكل» ليس باطلا على إطلاقه، لكنه أيضا ليس صحيحا على إطلاقه، وما عليك إلا أن تجتهد قليلا للكشف عن مواطن الداء فى الجسد السليم، وأن تفكر فيما تقول قبل أن تخرج كلمة من فمك، كى لا تصيب قوما بجهالة «فتصبحوا على ما فعلتم نادمين».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة