الاستقطاب تعبير بالتأكيد أنك سمعته وقرأته آلاف المرات وبالتحديد منذ اندلاع الثورة، فالكل يتحدث عن الاستقطاب وأزعم أن لا أحد توقف قبل أن يستخدم هذا التعبير ليقل للشعب والناس ما هو الاستقطاب أو بالتحديد ما أصل كلمة استقطاب.. فاسمح لى قبل أن أتحدث عن الاستقطاب الذى أتعرض أنا وأنت له فى كل لحظة أن أحكى لك عن أصل هذه الكلمة.
الاستقطاب polarization هى فى الأصل عبارة علمية تستخدم فى مجال الكهرومغناطيسية، وبدأ استخدام هذا التعبير فى المجال السياسى بعد الحرب العالمية الثانية حين انقسم العالم بين معسكرين أو قطبين هما القطب الأمريكى والقطب السوفيتى، والاستقطاب يعنى حرص كل قطب على استدراج أكبر قدر ممكن من الدول إلى جانبه بشتى الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية.
مقدمة كانت لابد أن أنوه لها قبل أن أتحدث عن الاستقطاب الذى نعيشه أنا وأنت ونحن جميعاً ليل نهار.. فالمجتمع المصرى الآن يقع بين فكى رحى «التحرير» و«العباسية» حتى لو كان من سكان الوادى الجديد أو شلاتين.. فأنت إما من أهل «التحرير» أو من مرتادى «العباسية».
وتحول الاستقطاب تماما عند كل طرف إلى معسكر تفتيش للضمائر والنوايا لا مجال فيه للنقاش أو الاختلاف، وكم من أصدقاء عرفتهم جرت قطيعة بينهم وتنابذ بالألقاب بسبب الاختلاف حول العباسية والتحرير.. وكم من علاقات رأيتها تتهاوى بسبب هذا الاستقطاب حتى فى الأسرة الواحدة.. فكأن «العباسية» و«التحرير» دين جديد يفرق بين المرء وذويه، رغم أن الجميع يعلم أن الإسلام هو خاتم الديانات، وينصب الجميع أنفسهم أنبياء يبشرون بدينهم إما «عباسية» أو «تحرير»، ولا يتورع أى منهم عن إطلاق إعلامه ونكته وبذاءته واتهاماته على كل طرف، فالكل أنبياء والكل مبشرون بدينهم وما دون ذلك فالموت المعنوى أو الجسدى للأعداء.
ومن المثير أن كلا الطرفين يستخدم سلاحا واحدا حتى قبل أن يفكر أو يدعو الآخر للتفكير.. وهو التخوين.
وهذه الحالة تستدعى فى ذاكرتى اسم جوزيف مكارثى ربما تعرفه أو لا.. ولكن اسمحوا لى أن أحكى لكم عنه فما أحوجنا الآن لنحكى عن هذا الرجل الذى كان أشهر وأصغر عضو فى الكونجرس الأمريكى فى الخمسينيات، وكان يكن عداءً شديداً للشيوعية فوقف وهو رافعاً قائمة تضم 205 أسماء لعاملين فى الحكومة الأمريكية متهماً إياهم بالعمالة لروسيا والشيوعية.. وكانت تلك بداية «حملة الخوف» كما أطلق عليها والتى قادها مكارثى لسنوات ودفعت بالعشرات من كتاب وفنانين ومثقفين أمريكيين إلى الهجرة أو الانزواء، لأنها حملة خلطت بين الخطر الحقيقى للشيوعية وبين اليساريين والليبراليين الذين أرادوا إصلاح ظروف العمل فى أمريكا وتحسين أوضاع البشر والحياة.. واستمرت آثار حملة الخوف سنين طوالا تجاوزت الحملة نفسها، ولكن دارت الدوائر على مكارثى ذاته حين تصدى له البعض واكتشف الأمريكيون وهم كثير من تخويفه لهم وتم تقديمه للمحاكمة بتهمة الفساد والتزوير.. وأدانه الكونجرس ومات مدمناً للمخدرات.
نعم مكارثى مات منذ عقود ولكنه نبت فجأة فى مصر فصار كل منا مسكوناً بروحه إلا من رحم ربى.. فإن كنت من أهل «التحرير» فأنت ممول، أو مخرب، أو صايع، وضايع، أو تعمل على خراب مصر، أو مستقطب من دول عدوة، أو طفل شوارع، أو بنت صايعة.. هذا بالنسبة لأصحاب العباسية، بينما أنت طاهر، وباهر، ومثقف، وفدائى، ومحب لمصر، وتعمل لله والوطن.. بالنسبة لأهل التحرير.
أما وإن كنت من أصحاب العباسية فبالنسبة لأهل التحرير أنت فلول، أو غبى، أو جاهل، أو متآمر، وموجه، ومدفوع بوجبة مكرونة ومعلبات وحاجة ساقعة، أو مضلل فى أفضل الأحوال.. بينما بالنسبة لأصحاب العباسية أنت وطنى، شريف، طاهر، باهر، تريد الحياة لمصر وأهلها، وتبحث عن مستقبل آمن.
الاستقطاب والمكارثية كلمتان تم استيرادهما ولكننا كمصريين الآن نعيد إنتاجهما بنجاح باهر ربما أكثر من أصحابهما الذين هجروا تلك المصطلحات بل أدانوهما.
ليس كل التحرير ملائكة.. ولا كل العباسية شياطين.. ولكن مصر فيها بعض من هذا، وبعض من هذا.. فهل من الممكن لكى نجتاز تلك المرحلة أن يجتمع أغلبنا على مطلب واحد، وهو أن يتم تسيير خط أوتوبيس خاص «تحرير- عباسية» رايح جاى على البعض منا على الأقل وليس كلنا.. نلتقى فى ميدان رمسيس سابقاً.. المحطة حاليا.. ما رأيكم دام فضلكم؟
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة