أتصور أن القراءات العكسية لعام مضى والسباحة فى اتجاه معاكس للتيار تستهدف فى أحيان كثيرة التيقن من أن المسارات صحيحة واستكشاف جوانب جديدة قد تكون الأحداث بسرعتها المعهودة وتدفقاتها قد أغفلتنا عن رؤيتها.. فالانعطافات الكبرى فى تاريخ الأمم تمتلئ بالثراء المعرفي، والزخم الثورى الدائر بكل ضخامته لابد أن يدفعنا للتساؤل حول مغزى التزامن الغريب بين كل تلك الثورات وتدافعها فى وقت واحد بكل تلك القوة والاندفاع ثم التشابه الواضح بين مسارات كل منها سواء فى أساليب التعاطى والمعالجة والتعامل أو فى أساليب إدارة الصراع بين المد الثورى والأنظمة القائمة.. وسواء اتفقنا أو اختلفنا فسيبقى رابط خفى عصى على الفهم يجمعها فى نسق محكم، ويطرح تساؤل وحيد تائه يبحث له عن إجابة.. هل كان الظلم والقهر والفساد السياسى والفقر وتردى الأوضاع الاقتصادية هو المحرك الوحيد لكل ما شاهدناه!! أم أن هناك عوامل خارجية عجلت من الانهيار؟! علينا أن نبحث بدقة بعيداً عن انطباعاتنا الشخصية وتوقعاتنا المفرطة فى التفاؤل فربما لن يكون القادم هو الأسوأ لكنه أيضاً ربما لن يكون الأفضل!! ومشاهد القتل المروعة فى أنحاء مصر تجعلنا أيضاً نقف متسائلين ومستنكرين ذلك الميراث القاتل من الكراهية، الذى يدفع شعوبًا بأكملها للركض فى طرقات وشوارع المدن تقذف بالزجاجات الحارقة فى كل اتجاه وتفتح صدورها العارية لتحتضن طلقات الرصاص، وتستنشق غازات الاختناق وكأنها النسيم العليل.. من صنع من هؤلاء الأطفال رجالاً بكل هذه القسوة والدموية التى تخرج عن سياق التوارث الجينى؟! المؤكد أن ما صنعه الطغاة كان أشد وأكثر قسوة من تلك النهايات الدرامية التى نشاهدها.. وهنا لا أبرئ أحدا أو أتهم أحدا فقط أعيد قراءة المشهد من وجهة نظر تبتعد خطوات للخلف لتراه أكثر وضوحاً بعيداً عن سحابة الكراهية التى تظلل كل شىء من حولنا.. فالوطن تحول منذ سنوات طوال إلى طوق أمنى.. ولا يكاد يعبر صباح دون أن تصطدم عينيك بتلك الكلمات مع تصفحك لمانشيتات الصحف وعناوين الأخبار، وكأنك تحيى وسط كرنفال احتفالى لأطواق أمنية فى كل بقعة على أرض مصر، الدولة نفسها أصبحت تحت حماية الطوق الأمنى.. بالأمس كان الطوق الأمنى فى مشروع إسكانى بأكتوبر، واليوم هو أمام نادى القضاة وغداً أمام مجلس الوزراء، وبعد غد فى طرقات الإسكندرية والسويس والإسماعيلية.. والأسبوع القادم أمام كل بيت فى مصر.
عمليات كر وفر لا تنتهى بين فلول النظام وفلول الثورة، وفلول التيار الدينى وفلول الاشتراكيين.. نعم الجميع تحول إلى فلول دون استثناء ونجحت لأبعد الحدود مخططات تفكيك الثورة لأنها كانت بلا قائد ملهم، ومن يحصى أعداد القتلى والجرحى فى صدامات الأمس بمجلس الوزراء وبالتحرير والسويس والإسكندرية سوف يقرأ رسالة واضحة لا تخطئها العين لكل الأطراف بأن منهج القتل خارج القانون ـ والذى دفع بالبلاد إلى حافة الانهيار فى يناير الماضى ـ لايزال هو الأقوى والأكثر تأثيراً ونفوذاً.. وسياسات الاختزال والاستقطاب تهيمن على أفكار الفعل السياسى.. والاختلاف ضل طريقه فى لحظات كثيرة وأصبح إدماناً على التشويه.. والحد الأدنى من الإجماع بين القوى والتيارات الوطنية الرئيسية لم يعد له وجود..
والجهل المعرفى بهوية كل منها عن الآخر يجعلها جميعاً قوى وطنية معطلة.. والخوف من المجهول يدفعنا جميعاً أمامه.. المؤكد أن إسقاط أى نظام لا يمكن أن يمر بلا ثمن تسدده المجتمعات من أمنها واستقرارها ومن يقول بغير ذلك فهو واهم، لكن الأكثر إيلاما أن تتصور بعض تلك التيارات الأساسية أن بإمكانها أن تجنى الثمار بمفردها تماماً مثلما فعلت الأنظمة السابقة لنخرج من طغيان زائل إلى طغيان جديد تحت التأسيس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة