جمعتنى بها منذ سنين طويلة ملاعب مدرستنا الواسعة، ونحن لم نتعلم بعد كيف نخط القلم، وكان أول ما تعلمنا كيف نبنى منازل من الرمال وننحت تماثيل من الصلصال نضعها فى تلك المنازل لنخلق بها حياة. ومنذ أن تعلمنا كيف نخلق أو نعيد خلق الحياة بالخيال صرنا صديقتين تجمعنا المدرسة التى كان يديرها رهبان، ولم تكن المدرسة فقط هى ما جمعنا أو الخيال، ولكن أشياء أخرى كثيرة، فأمى كانت تشبه أمها، وأبى كان يشبه أباها، وكان لها أخت أكبر منها كما كان لى، وكانت تحب الآيس كريم كما أحبه، أى بعبارة قصيرة موجزة كانت مارى كما يطلق عليها مدرسونا الأجانب، أو مريم كما كان يناديها مستر محمود مدرس اللغة العربية، صديقة الخطوات الأولى فى الحياة.
ولم نكن نفترق طوال سنوات الحضانة، ولكن فى السنة الابتدائية الأولى دخلت علينا مدرسة تطلب أن ينتقل بعضنا إلى فصل آخر، لأن حصة الدين قد حانت، ولم أستطع فى لحظتها أن أفهم أو أقبل لماذا يجب على مارى أن تذهب لفصل آخر، ولا تجلس إلى جوارى كعادتنا، فقررت أن أصاحبها، ولكن مدرستى طلبت منى البقاء، وشرحت لى أن المسلمات وأنا منهن عليهن أن يجلسن، والمسيحيات عليهن أن ينتقلن إلى الفصل الآخر لدراسة الدين الخاص بهن، وكانت تلك هى اللحظة الأولى لى ولها التى نعرف فيها أن هناك شيئا مختلفا فيما بيننا كفيلا بأن يجعل كلا منا يجلس فى فصل مختلف. وبعد انتهاء حصة الدين وعودة مارى حكى كل منا ما سمعه من درس، لنعرف بغريزة الأطفال ما الذى فرقنا، ومن الغريب أننا اكتشفنا أن نفس ما ذكرته مدرسة الدين الإسلامى هو نفس ما تكلمت عنه مدرسة الدين المسيحى، وكان الاختلاف الوحيد أن واحدة استشهدت بكلمات من القرآن والأخرى بكلمات من الإنجيل، وحين اكتشفنا ذلك وبنفس غريزة الأطفال ذهبنا لمدرستينا لنقل لهما إنه لا داع لتفريقنا مرة أخرى فى فصلين إن كان ما نتعلمه هو نفس الشىء، ولم تنهرانا مدرستانا أو تتعجبا، لأنهما كانتا مربيات فضليات فى زمن أفضل، بل أفهمانا وأكدا أن ما ظننا أنه اكتشاف خاص بنا هو شىء مؤكد، لأن الأديان التى أنزلها الله تتفق أكثر مما تختلف، وتتكامل ولا تتقاطع.
كانت مارى وغيرها ممن يذهبن إلى الفصل الآخر يصمن معنا فى رمضان، وكنا نحن نغنى معهن الكريسماس كارول، أو أغنيات الكريسماس فى كنيسة المدرسة.
كانت مارى تقف لتحمل لى «الفوطة» حين أرادت مدرستنا أن تعلمنا الوضوء السليم والصلاة فى جامع المدرسة الذى بناه لنا الرهبان دون أن يجبرهم أحد على ذلك، وكانت لا تأتى أبداً بسندوتشات المورتاديلا التى تحبها إلى المدرسة، لأنى قلت لها إن أمى قالت لى إنها حرام، ولا يجب أن نأكل لحم الخنزير. كانت مارى أو مريم ومازالت صديقتى، حتى بعد أن فرقتنا الأيام لقسم علمى وأدبى، ثم لكلية الطب وكلية الإعلام، ثم العمل، ثم تغيرت كثير من ملامح مصر، وتغيرت نفوس الناس وأشكالها وعلاقات البشر، ولم يتغير أبداً ما بينى وبين مارى، حتى حينما قررت أختها الهجرة وأرادت أن تقنعها بها وقفت لها معترضة كما فعلت مارى نفسها، حين شكت لى أن أولادها المتفوقين لم يتم تعيينهم فى الكليات التابعين لها لأنهم مسيحيون، قلت لها: وكم من مسلم بلا وساطة ضاع حقه.
كانت مارى تشكو لى وكنت أشكو لها أيضاً فساد الذمم الذى يجمعنا كلنا تحت مظلته، كانت تحكى عن مظالم للمسيحيين، فأرد عليها بمظالم للمسلمين، وأقول إنها مظالم مصريين، وحين اقترح عليها أبناؤها قبل الثورة بشهور الهجرة لخالتهم رفضت وبشدة أن تترك مصر بلدها.
خبر صغير يقول إن عشرة آلاف مسيحى تقدموا لطلب الهجرة خوفاً من تولى الجماعات السياسية الإسلامية الحكم.. اتصال من مارى تقول إن ولديها رقم من بين عشرة آلاف فى طريقهم للهجرة.. رسالة منى على الهاتف المحمول لمارى: «إذا هاجر أبناؤك فسيكونوا مثل الفلسطينيين الذين باعوا أرضهم ورحلوا خوفاً من بطش الصهاينة، وهم ليسوا فلسطينيين، والمسلمون المصريون ليسوا صهاينة، وعلينا مسلمين ومسيحيين إن كان بيننا، منا أو منكم، صهاينة أن نطردهم لا أن يطردونا»..
انتهت رسالتى لمارى أو مريم.. أى مارى.. أو أى مريم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة