إنها الثورة.. للأرزقية ومحللى اليأس فى الفضائيات وتجار الثورات والبلطجية والعيون المفقوءة والأجساد المنسحقة تحت عجلات حديدية لم ترحم عشرين عاما هى كل عمر الوردة، هى الثورة.. للحرية والماء والعصافير التى تفرد الأجنحة الغضة فى محاولة مستميتة باتجاه الشمس والوطن المتسامح مع من أذلوه.. كنت مع الروائى صاحب دار نشر ميريت «محمد هاشم» والشاعر الكاتب الصحفى بالأهرام «إبراهيم داود» مزنوقين فى شارع محمد محمود، بينما كانت قنابل الغاز المستوردة حديثا تنشر سمومها الخانقة فى رئات مئات الآلاف الذين تجمعوا فى ميدان التحرير وشارع محمد محمود غير أن فقء عيون الشباب والقتل بالخرطوش والرصاص الحى على أيدى قناصة الداخلية كان يختص بشباب المقدمة الذين قرروا التصدى لعدوان الأمن المركزى حتى يمنعوهم عن مهاجمة الملايين الموجودة فى الميدان تعلن استمرار الثورة إلى حين تحقق أهدافها المشروعة، فجأة توقف «إبراهيم داود» مذهولا للحظات وهو ينظر باتجاه الجانب الأيمن من الشارع، ثم ما لبث ذهوله حتى تحول إلى ضحكات أفزعتنا أنا و«محمد هاشم»، وبعد لحظات فى محاولة منا لاكتشاف سبب هذه الهستيريا الضاحكة من «إبراهيم»، الذى كان يسدد نظراته باتجاه شابين فى الثلاثينيات تقريبا من العمر، وكل منهما يرتدى جلابية بلدى، وقد فرشا أمامهما رقعة كبيرة من المشمع عليها كومة ضخمة من الطوب فيما راح أحدهما يعلن عن بضاعته التى يبيعها لشباب الثورة بسعر التكلفة.. الأربع طوبات بجنيه واحد، يا بلاش، فقد صنّع الشابان حبات الطوب من الأسمنت بعد إضافة لون بنى له وقطع من حصى رخام «الكرارة» الأبيض اللون، ذلك الذى يستخدم فى صناعة البلاط الرخيص لأرضيات بيوت الفقراء، توقفنا نحن الثلاثة أمام هذا المنظر للحظات مركزين نظراتنا على كومة الطوب وقد تملكتنا ضحكات لا تقل هستيرية عن ضحكات «إبراهيم داود» فى البداية، وسرعان ما دفعنا الشباب للخروج من فوهة شارع محمد محمود عندما بدأ أشاوس الأمن المركز وقناصة الأعين فى إطلاق الأعيرة النارية (التى يسمونها الخرطوش) على الشباب، فانخرطنا من جديد وسط دوامات البشر فى الميدان، فيما كان «البلطجية» المندسون فى هيئة الباعة الجائلين يبيعون البطاطا والترمس والكسكسى وقطع الحشيش وحبات الترامادول المخدرة، وفى اليوم التالى أصر شباب الثورة على إخلاء الميدان من كل الباعة الجائلين، ظهرت السنج والمطاوى والسيوف، ومع استمرار شباب الثورة فى إخراج «البلطجية» من الميدان حتى خارج ميدان عبدالمنعم رياض لم تلبث الطبنجات والمسدسات صغيرة الحجم تظهر فى أيدى البلطجية (الذين كانوا منذ دقائق باعة جائلين) لتطلق الرصاص فى كل الاتجاهات، ويقبض الشباب على بعض هؤلاء البلطجية ليكتشفوا أنهم أمن الداخلية ومن قبض عليه الشباب حبسوه فى محطة المترو بالقرب من مسجد عمر مكرم.. هى الثورة للأرزقية من بائعى الطوب والحشيش وحبات مخدر الترامادول، والكتب، نعم الكتب التى تم توليفها على عجل لتلحق المطابع طباعتها فى مؤسسات كانت تطبع الكتب والصحف التى كانت تمجد فى عهد وأسرة الذليل المخلوع لتبدأ فى تكليف بعض «الكتّيبة» الذين عاشوا دائما على هامش الحركة الوطنية متصيدين بعض الغنائم «النضالية»، فيما كانوا منغمسين حتى آذانهم فى مستنقعات نظام الذليل المخلوع الثقافية، وها هى الثورة تعيد لهم طموحاتهم فى سرقة شو إعلامى، حيث ينسبون إلى أنفسهم أدوارا لم يقوموا بها ودعما للثوار لم يفعلوه فى محاولة لسرقة مجد لا يستحقونه، فتكون كتاباتهم الهزيلة محض أكاذيب تشوه لحظات مجيدة لم يعيشوها إلا بأسماعهم من أفواه الشباب والأصدقاء، ليصطفوا فى النهاية بكتبهم إلى جانب باعة الطوب الثورى فى أحسن الظروف، هذا إذا لم يصطفوا بكتبهم الساقطة إلى جوار البلطجية من باعة الحشيش والبانجو وحبات الترامادول، نعم هى الثورة التى من أجلها سوف تخلف كل النوات مواعيدها وتخلف كل الأعاصير توقيتاتها لتحملانها باتجاه بهاء الوطن المضىء، هى الثورة التى تعيد للشهداء وطنهم، وللأولاد عيونهم المفقوءة، هى الثورة المستمرة التى تسترد الوطن من ضياعه والأمة من سباتها المقيم، لكن ليس قبل أن تتخلص من باعة الحشيش والبانجو وتحليلات الفضائيات والكتب الساقطة.