تصور البعض أن الثورة انتهت، لكن تجارب التاريخ وما يجرى، تشير إلى أنها ما تزال فى البداية، وإذا كان هناك من يقرأ، عليه أن يعرف أن إسقاط الرئيس لا يعنى إسقاط النظام، وحتى إسقاط النظام لا يعنى أن الثورة نجحت، فالثورات مثل عمليات الولادة تحتاج إلى شهور للحمل وسنوات للرضاعة مع ضمان خلو الجنين من التشوهات والمشكلات الوراثية، لكن النظام فى مصر بالرغم من انهيار مؤسساته مايزال قائما.
كانت أول مطالب الثورة تنحية مبارك عن الحكم وإعلان جدول زمنى للإصلاح السياسى والدستورى وحل مجلسى الشعب والشورى، وهى مطالب أعلن المجلس العسكرى تحقيقها وحدد 6 أشهر للفترة الانتقالية مع وعود بإلغاء قانون وحالة الطوارئ.
لكن وسط كل هذا انفجرت الإضرابات والاحتجاجات الفئوية فى أنحاء مصر وكل الفئات المظلومة تطالب بعودة حقوقها الآن، الاعتصامات فى كل مكان فى البنوك والشركات، فى المستشفيات والمعاهد فى الطرق والقطارات كل من له طلب فئوى انطلق يعبر عنه، وربما بعض هؤلاء لم يشاركوا فى ثورة 25 يناير، وإنما تشجعوا منها لكن كل هؤلاء اختاروا وقتا خاطئا ليطالبوا بحقوق أو متأخرات، اختاروا وقتا مايزال المجلس العسكرى يرتب فيه الأوراق ويكاد يسيطر على الأمور..الشرطة غائبة وخزانة الدولة خاوية، وكل ما يملكه المسئولون هو تقديم وعود.
وهناك مظاهرات لا تطلب مالا وإنما تطالب برحيل رئيس أو مدير أو مشرف.. موسم الانتقام والمطالب.. المظاهرات الفئوية موجودة منذ أربعة أعوام، وتكشف عن أن الموظفين والعاملين أصيبت دخولهم بالشلل طوال سنوات وأصابهم الهلع عندما رأوا وسمعوا عن المليارات المنهوبة.
وعلينا أن نتوقع المزيد من المظاهرات، للعاطلين والفقراء، وكلها مظاهرات تتعجل الحصول على نتائج، بينما يرى البعض أن الاحتجاجات يجب أن تتوقف وأن تعطى فرصة للدولة حتى تستعيد قدرتها على إدارة المؤسسات، وأن تبدأ خزانة الدولة فى تلقى الضرائب وتعود السياحة وتدور عجلة الاقتصاد، لكن إذا كانت المظاهرات مفهومة بعض الشىء فإن ما جرى مع الأراضى الزراعية من تجريف وبناء على مئات الآلاف من الأفدنة، استغلالا لغياب أجهزة الدولة هو أخطر ما يمكن أن يواجه البلد من فوضى، ولا نعرف ما إذا كان المجلس العسكرى والحكومة التى تدير الدولة سوف يتصدون للعدوان على الأرض الزراعية، ونهب الممتلكات.
وقد اكتشفنا من مظاهرات رجال الشرطة انهم يعانون نفس المشكلات وكانت مظاهراتهم كاشفة عن كارثة تفريغ الأمن لحماية النظام والأمن السياسى والتخلى عن دورهم فى حماية الممتلكات والأفراد، ونحتاج إلى مجهود لإعادة بناء الأمن على أساس سيادة القانون وأن تقوم الشرطة بدور شرطة تحمى دافعى الضرائب وليس شرطة تقمع الشعب.
لكن كل هذه الخطوات ليست سهلة وتحتاج إلى وقت وجهد، ومع أهمية التعديلات الدستورية فإن بناء الدولة يبدأ من المجالس المحلية وإقامة لامركزية يكون فيها المحافظون منتخبين ومعهم رؤساء المدن وهى أمور يبدو تنفيذها صعبا، لكنها الأساس الذى يقوم عليه نظام سياسى حقيقى يفرز ممثليه، وأتصور أن هذه الخطوات تتطلب وقتا وجهدا حتى يمكن القول إن النظام تغير، خاصة وأننا نعيش فى نظام توريثى فى الجامعات والقضاء والبنوك، والشرطة، وهو نظام يعتدى على تكافؤ الفرص ويحرم الفقراء من حقوقهم، كل هذه آلام تستمر لفترة طويلة وتحتاج إلى يقظة حتى لا تتحول الثورة إلى مجرد تغيير فى جلد النظام ووجهه دون أعماقه.