وفى البدء كانت تونس.. على أرضها الخضراء اشتعلت شرارة الكرامة فانطلق العرب لاستعادة كل ما خسروه من شيم العزة والنهضة فى سنوات الخضوع لسلطة القمع والقهر.
وفى قلب الوطن العربى توقفت شرارة الثورة لتسكب فوقها القاهرة بنزين الغضب وتشتعل وتتوهج وتنادى كافة الأراضى العربية لكى تقلد القاهرة، كما حدث تماما بعد يوليو 1952.
فى مصر وجدت شرارة الثورة نفسها وقد تحولت إلى لهب شعبى حارق قادر على هزيمة أعنى الأنظمة، وقادر على إخضاع مبارك الذى ظن هو ومن حوله يوما أن لا أحدا قادر على أن يعلو بصوته فوق صوت الرئيس، ولكن الشلل الدماغى أصابهم حينما وجدوا الآلاف يهتفون برحيل الرئيس نفسه، فسقطوا فى فخ "الحيص بيص" واحتاروا وضربوا كفوفاً فوق الكفوف، بحثا عن مخرج، ولكن الشعب أجبرهم فى النهاية على الخروج من باب واحد.. هو باب الرحيل.
ولأن مصر هى القلب، ولأن التاريخ أخبرنا بأن الشرايين الخارجة من القاهرة هى التى تغذى العالم العربى وتحدد كيف تسير الأمور بداخله، لم تمر الأيام على اشتعال الثورة المصرية إلا وقد خرج الآلاف فى الجزائر وليبيا والبحرين واليمن والأردن يبحثون عن طعم الحرية الذين شاهدوا حلاوة طعمه فى الصور الاحتفالية للشعبين التونسى والمصرى.
هى إذن خريطة جديدة ترسمها تلك الثورات العفوية والشعبوية للوطن العربى من جديد، خريطة جديدة لوطن أكثر حرية وأكثر وحدة وأكثر تماسكاً تديره الديمقراطية ولا تذكر أسماء دوله فى صحف العالم ضمن قوائم دول العالم الثالث، وتعرف فيه كراسى الحكم طعم التغيير ورائحة الجلود البشرية المختلفة.
هى إذن مرحلة جديدة لإعادة اكتشاف المواطن العربى، ذلك المتهم دائما بالخنوع والخضوع، مرحلة جديدة لإعادة اكتشاف الوحدة التى أوهمنا الإعلام الفاسد بأنها غير موجودة حينما حاول أن يستخدم التعصب الكروى كدليل على موتها، فإذا بالثورات العفوية ترفع نفس الشعارت وتتبادل رفع الأعلام والتهانى لتخلق أملاً وحلماً جديداً فى وطن عربى أفضل.. فى أرض واعدة من المحيط للخليج تقدم نفسها للعالم فى ثوب جديد.. ثوب الحرية والقوة.
تونس:
ضابط شرطة ظن فى لحظة أن الديكتاتور الذى يرأس دولته يحميه، وتخيل أن الصبر قد أصبح مرادفاً للجبن فى بلده، وعربة متجولة لبيع الخضار والفاكهة فى الشوراع التونسية، وبائع متجول شاب اسمه محمد البوعزيزى عاطل عن العمل منذ أن تخرج بشهادة عليا.. هذه التركيبة لم يكن أحد يتخيل حتى ولو فى أزمان السحر أنها قد تكون سبباً فى خلع واحد من أشهر ديكتاتوريات العالم الثالث، ولكن "البوعزيزى" كان له رأى آخر لم يتحمل حماقة الضابط وغطرسته، وقرر فى لحظة أن يصنع الفارق، فأشعل فى نفسه النار، دون أن يدرى أن يشعل أول شرارة فى ثورة تنتشر الآن فى ربوع العالم العربى.
18 يوماً هى الفترة التى ظل فيها البوعزيزى بين الحياة والموت داخل المستشفى وبعدها مات ليشعر المئات ثم الآلاف من التوانسة بطعم الذل، فخرجوا ليعبروا عما بصدورهم من ضيق بسبب الغلاء والبطالة، وانتشرت المظاهرات تنادى بمطالب اجتماعية تزيد وتزيد وبن على لا يرد بغطرسة حاكم مطمئن لقبضة الحديد والنار التى كان يحكم بها، ولكن سرعان ما تطورت المطالب وصعدت لأعلى لتطالب برأس النظام نفسه ورحيل "بن على" وزوجته، غير عابئين بمحاولاته التوسلية وبخطابه الشهير الذى أعلن فيه أنه فهم الشعب أخيرا، ولكن الشعب كان قد قرر أنه لا فرصة أخرى للديكتاتور الذى ركب أول طائرة وهرب وظل يبحث عن مأوى حتى وفرته له المملكة السعودية.
مصر:
منذ عام 2000 والمصريون يسعون بكل جهد لخلخلة رجل الكرسى الذى كان يجلس عليه الرئيس مبارك وكان الأمر يبدو وكأنه المستحيل الرابع مع الغول والعنقاء والخل الوفى، اشتدت وطأة التظاهرات وعلت الأصوات فى 2005 ثم خفتت، وتوحش النظام وزادت غطرسته للدرجة الدى دفعته لتزوير الانتخابات بشكل أكثر فجاجة، مما كان يحدث فى زمن الديكتاتوريات الكبرى، وفجأة وبدون سابق إنذار ظهرت دعوة للتظاهر يوم 25 يناير، حملت الدعوة رغبة قوية فى تقليد الشعب التونسى والبحث عن ثورة مماثلة ترضى غرور المصريين الذى أصابتهم غيرة أن يتحرر شعباً فى المنطقة قبلهم، سخر النظام من الدعوة وهزأت بها الصحف وتعامل معها الجهاز الأمنى بنفس المنطق القديم.. مئات الهتيفة سيظهرون فى ميدان التحرير وستفرقهم قنبلة غاز مسيلة للدموع، ولكن كانت الرغبة فى تقليد الوضع التونسى ورفع علم الريادة المصرية أكبر مما يتوقع الجميع، امتلأ الميدان عن آخره وهتف الناس مطالبين بتغيير النظام، ولكن مبارك مثله مثل "بن على" لم يفهم بسرعة وزاد من غطرسته، وفرق المتظاهرون بالقوة ولكنهم عادوا فى جمعة الغضب وظهروا فى كل مكان فى التحرير والسويس والإسكندرية والمنصورة ليرتبك النظام وترتعد مفاصله، ويسقط الشهداء ليبدأ العد التنازلى لرحيل الرئيس الذى بقى لمدة 30 عاماً مبدياً قوة ظن الجميع بسببها أنه غير قابل للرحيل إلا بأمر عزرائيلى، سكن الناس الميدان وتعالت الهتافات وحاول الرئيس التهدئة بخطابات غير موفقة، وتأتى دائما متأخرة، ولكنه لم يفهم أن الإصرار فى هذه المرة حقيقى، وأن الهدوء لن يحضر إلى الميدان إلا برحيله الذى حان موعده فى 11 فبراير ليحتفل بعده المصريون بانتصار تأخر طويلا وتبدأ مرحلة جديدة.. وتبدأ شعوب دول أخرى فى الحصول على مشعل الثورة من القاهرة.
اليمن:
حاول الرئيس اليمنى عبد الله صالح، أن يبدو أكثر ذكاءً من إخوانه على كراسى الحكم العربية بعدما اشتم رائحة نار الثورة تحرق أنظمة إخوانه فى تونس ومصر، فخرج مسرعاً ليعلن أنه لن يترشح للرئاسة مرة أخرى بعد 32 عاماً قضاها فى حكم البلاد، ووعد بأن ابنه لن يترشح هو الآخر.. ولكن صالح لم يفهم أن ما حدث فى مصر وتونس كان مجرد حلقة فى مسلسل طويل اسمه خلع الحكام العرب، وخرجت المظاهرات فى اليمن تطالب وبشكل واضح وفورى برحيل الرئيس اليمنى، الذى لم يتعلم شيئاً من موقعة الجمل، ولم يفهم بعد أن لعبة تجييش المؤيدين ضد المعارضين لم تعد تزيد المعارضين إلا إصرارا، أخرج صالح أجهزته الأمنية ومؤيديه ليشتبكوا مع المعارضين، فسقط قتلى ومصابون لتزيد دماؤهم من تصميم المعارضين على رحيل صالح بلا رجعة، واستخدم أهل اليمن نفس الشعار الذى تم استخدامه فى تونس ومصر.. الشعب يريد إسقاط النظام، ولم يتعلم صالح للمرة الثانية وألقى باللوم على الأجندات الخارجية مثلما حدث فى مصر، ولكنه لم يأتى على ذكر كنتاكى بعد.
المظاهرات فى اليمن مستمرة والاشتباكات مستمرة رغم دعوة الحوار ورغم التنازلات التى تقدمها الحكومة، بحثاً عن الهدوء مثل وظيف فورى لـ60 ألف شاب من خريجى الجامعات، والوعد بعدم الترشح مرة أخرى غير أن دماء الشهداء الثمانى الذين سقطوا فى أنحاء مختلفة من اليمن نقلت المظاهرات بشكل نوعى إلى نطاق جغرافى أوسع يشير إلى احتمال حدوث نهاية وشيكة للرئيس اليمنى تشبه ما حدث مع مبارك وبن على.
ليبيا:
وأنت تقرأ هذه السطور لا أعرف بالضبط كم من الشهداء سقطوا على أرض ليبيا فى تلك المجزرة التى يقودها العقيد معمر القذافى ضد معارضيه الذين التقطوا مشعل الثورة من القاهرة، وقرروا أن يهتفوا "الشعب يريد إسقاط النظام" بحثا عن الحرية التى يحرمهم منها العقيد منذ ما يزيد عن 40 سنة.
لم تنفع افتكاسات العقيد أو ملك ملوك أفريقيا، كما يحب أن يلقب نفسه، فى إنقاذه من رغبة الشعب الليبى الصادقة فى التغيير، ولم تفلح نكتة نزوله مع المتظاهرين من أجل إقالة الحكومة فى تهدئة الأوضاع، كما لم تفلح حدوتة تجييش المؤيدين فى مواجهة المعارضين، انتشرت شرارة الثورة فى ليبيا ولم يعد هناك فرار، وقرر الشعب الليبى أنه ليس أقل من جيرانه على الحدود الغربية والشرقية، لم يفهم العقيد تلك الرسالة، ولم يفهم أو يتعلم مما حدث فى اليمن ومصر وتونس، لم يستوعب أن دم الشهداء حينما يسيل على الأرض يزيد من إصرار المتظاهرين على إسقاط النظام بدلا من أن يصيبهم بالرعب أو الخوف.
وفى غياب إعلامى وتعتيم متعمد سواء بعدم وجود فضائيات أو قطع الإنترنت والتليفون، فتح القذافى الباب أمام قواته من المرتزقة الأفارقة ليقتلوا ويفتحوا نيرانهم على الشعب الليبى ليسقط قتلى بالعشرات فى المواجهات الأولى دون وجود أى حصر دقيق لأرقام الضحايا التى يتوقع البعض ضخامتها بسبب وحشية قمع المتظاهرين، والتى وصلت حسبما قالت وكالة اسوشيتد برس عن مسئول طبى قوله إن القناصة كانوا يطلقون النار من على أسطح مقار لقوات الأمن فى المدينة الواقعة بشرق البلاد بقصد القتل الفورى بلا أى رحمة.
زادت دماء الشهداء من إصرار المتظاهرين وانتشرت المظاهرات فى ربوع الأراضى الليبية تصنع مواجهات أكثر سخونة ودموية ولكنها تبشر بقرب رحيل ديكتاتور آخر.. بل برحيل الديكتاتور الذى يحمل شارة الأقدم على الإطلاق.
البحرين:
لم يتوقع أحد أن تمتد شرارة الثورة من مصر وتونس إلى دول الخليج الآن، الكل توقع أن تدور الشرارة أولا فى تلك المناطق التى اعتدنا فيها حراكاً وعلمنا بما فيها من فقر وبطالة، ولكن البحرين صنعت الفارق وفاجأت دول العالم بانتفاضة وثورة تشبه فى عفويتها وتلقائيتها وحماسها ما حدث فى تونس ومصر، صحيح يمكن إرجاع ذلك الحماس وحالة الاشتعال السريعة للتواجد الشيعى المكثف فى البحرين وشعوره بالاضطهاد، ولكن يبقى الواضح من مظاهرات البحرين حتى الآن أنها محاولات صادقة للتغيير، لم يستوعبها النظام الحاكم كالعادة وتعامل معها بغطرسة وعنف دون أن يتعلم مما حدث مع الأنظمة الصديقة والشبيهة فى مصر وتونس وليبيا، وبادر باستخدام العنف وأطلق الجيش البحرينى الرصاص الحى على المتظاهرين دون أن يفلح ذلك فى إنهاء التظاهر والاعتصام، بل وتسبب فى توافد الآلاف من البحرينيين إلى دوار اللؤلؤة بوسط العاصمة المنامة بعد يومين من فض الشرطة لاعتصام هناك بالقوة لاستكمال التظاهر، ثأراً للشهداء وبحثاً عن مطالبهم والتغيير.
ورفض المتظاهرون ممثلون فى تجمع الوفاق الشيعى المعارض عرض الملك حمد بن خليفة آل ثانى بالحوار مع كافة الأطراف فى البلاد لإنهاء الأزمة، ومن بعده خرج ولى العهد ليطلب فى خضوع من المتظاهرين الهدوء من أجل مصلحة الوطن وهى نفس النغمة التى تم استخدامها من قبل بن على ومبارك وصالح ولم تجدِ لأنها لم تحمل وعوداً واضحة وخططاً للتنفيذ، فكان رد المتظاهرين على تلك الوعود الوردية هى المطالبة للمرة الأولى برحيل أسرة آل خليفة التى تحكم البلاد من 200 سنة تقريبا، فهل تنتهى انتفاضة البحرين بمشهد ثورى مثلما حدث فى تونس ومصر.. ننتظر الأيام القادمة؟
الأردن والجزائر:
بشكل أقل حدة وبطرق مختلفة، سارت الأمور فى الجزائر والأردن، ففى الجزائر تجمع الآلاف فى ساحة أول مايو بالعاصمة الجزائرية تلبية لنداء التنسيقية الوطنية للتغيير والديمقراطية لتنظيم مسيرة للمطالبة بتغيير النظام. ورفع المتظاهرون شعارات "جزائر حرة ديمقراطية" و"السلطة قاتلة" و"الشعب يريد إسقاط النظام" الذى أصبح شعار العرب الملهم وأرسل الوزير السابق والأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطنى عبد الحميد مهرى رسالة مفتوحة للرئيس بوتفليقة، طالبه فيها بتغييرات سياسية واسعة فى البلاد، غير أن سلطة القمع كانت أقوى وعطلت المسيرة الاحتجاجية داخل الأراضى الجزائرية لكنها لم تقتل نداءات التغيير التى تنتظر اللحظة المناسبة من أجل الانطلاق.
أما فى الأردن، فقد شهدت البلاد طوال الأسابيع السبعة الماضية، حيث تشهد كل جمعة عقب الصلاة انتفاضة احتجاجية تطالب بتغيير الحكومة وهو ما فعله الملك صاغرا وخائفا من المصير الذى وجده الرئيسان مبارك وبن على، غير أن المظاهرات بدأت تطالب بإصلاحات سياسية أوسع وأشمل وإن لم تكن قد رفعت الشعار الشهير "الشعب يريد إسقاط النظام" بعد، وظل الاعتماد على هتافين رئيسيين فى كافة المظاهرات هما "الشعب يريد إسقاط الفساد" و"خبز وحرية وعدالة اجتماعية".
وشهدت المملكة الهاشمية مصادامت بين متظاهرين مطالبين بالإصلاح السياسى ومؤيدين للحكومة الأردنية هاجموا المحتجين بالعصى والحجارة، فهل تتطور الأمور فى المملكة والجزائر والمغرب التى تم الدعوة فيها إلى مظاهرات للإصلاح وسوريا أم تنجح أنظمة الحكم فى تلك البلاد فى التعلم مما حدث مع الأنظمة فى تونس ومصر وتنقذ نفسها من فخ الرحيل والسقوط.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة