أتمنى حينما يتم نشر هذا المقال، أن تكون أنظمة حكم القذافى وصالح قد انتهت، فالأحداث غدت أسرع من رصدها، وكرة ثلج التغيير فى العالم العربى أصبحت أسرع من التقاط شاشة الكمبيوتر للأحرف المطبوعة على الكيبورد، لكن تبقى الثوابت كما هى، ومن الثابت والأكيد أن كلاً من هذين الرئيسين قد أجرما فى حق شعبهما وفى حق الإنسانية باستخدامهما أبشع أنواع القمع وأقذرها، وأن محاكمتهما على هذه الجرائم أصبحت واجباً إنسانياً قبل أن تكون واجباً وطنياً.
هذان الطاغيتان، بالإضافة طبعاً إلى مبارك وبن على، قامروا بمصير البلاد التى حكموها فاستنزفوها، وتآمروا على شعوبهم التى صبرت على طغيانهم فلم يزدهم الصبر إلا تجبراً، حلفوا ألا يغادروا كراسى الحكم إلا بعد أن يدمروا الأخضر واليابس، تماماً كأفراد المافيا الذين يبادرون بإحراق أى مكان يسرقونه، ولو ترك الأمر بيد مبارك وبن على مثلاً لقتلا وأبادا من الشعب ما يكفى، لأن نغرق جميعاً فى بحر من الدماء، لكن والحمد لله فقد رزقنا فى مصر وتونس بجيش قوى مستنير وطنى يخاف على بلاده وشعبه ويسخر نفسه للدفاع عنهم، ساخرين من الجبابرة الذين يتخيلون أنهم ملكوا السماء والأرض، وأتمنى أن تكون قوات الجيش فى ليبيا واليمن على نفس القدر من المسئولية والوطنية.
لم أكن أتخيل أن يصل مدى استقتال هؤلاء الطغاة على الحكم إلى هذه الدرجة من الوحشية اللاآدمية، ولم أكن أتخيل أيضاً أن تصل البجاحة والقذارة بواحد مثل على عبد الله صالح إلى القول بأنه سيقطع الأعضاء التناسلية لمعارضيه إذا استمروا فى معارضته، وإن يستخدم الرصاص الحى فى قمع المظاهرات والاعتصامات منذ اليوم الأول للاحتجاجات، كما أننى لم أكن أتخيل أن تصل به الوحشية إلى أن يطلق وابلاً من الرصاص على مسيرة سلمية ترفع أعلام بلده، وأن يقهرها بهذا الشكل العدوانى المقيت، كما لو كان هؤلاء المعترضون من الهنود الحمر الذين أبادهم الرجل الأبيض فى العصور الوسطى، مما يدل على أن هؤلاء الطغاة من نوعية أخرى غير نوعية البشر.
فقد كان أكثر ما يستفزنى أثناء قيام الثورة المصرية هو تمسك الرئيس المخلوع "مبارك" بكرسى الحكم بعد كل هذه الأفيهات والنكات التى تداولها الثوار عنه، وفى الحقيقة لو كنت مكانه لتنحيت منذ اليوم الأول لاندلاع المظاهرات، وبالتحديد بعد أن طالبه الشيخ حافظ سلامة بالتنحى وخرج فى مظاهرات تطالبه بالرحيل وكاد أن يموت فى إحداها، وبصراحة أكثر لو أن حاكماً لبلد يعيش فيها "رمز" مثل "سلامة" شارك فى كل حروب مصر فى العصر الحديث ولم يحمل السلاح إلا فى وجه المحتلين، سواء كانوا إنجليزيين أو فرنساويين أو إسرائيليين ثم يأتى الوقت الذى يطالبنى فيه بالتنحى لتنحيت فوراً، وتندمت على نفسى باكياً وحاسبت نفسى أشد الحساب لمعرفة كيف وصل الأمر بى إلى هذا الهوان.
فى ليبيا تبدو الصورة أبشع، فالرئيس الليبى الذى يعد المغتصب الأكبر لبترول بلده، وآخر أشكال الدكتاتورية بسمتها البائدة احتكر الحكم لأكثر من أربعة عقود، ولم يكتفِ بهذا الاحتكار للحكم، بل أراد أيضاً أن يحتكر المعارضة، فقد طلع ابنه لينا مساء الأحد الماضى ليبشر المعارضين بمشروع ليبيا الجديدة، وبالطبع فإن تبشيره هذا لم يأتِ من باب الاستجابة لمطالب الشعب، لكن ليمنح نفسه شرعية حكم ليبيا الجديدة بعد أن اغتصب أبيه ليبيا القديمة، وليته صمت بعد أن ألقى هذه النكتة البالية، بل تمادى فى شتم المتظاهرين واتهمهم بأنهم يتعاطون حبوب الهلوسة، وهددهم بحرب وتشتيت وإراقة المزيد من الدماء!!
بقدر ما استفزنى هذا الخطاب الأعور، بقدر ما أسعدنى، فابن الطاغية بشرنى بجملتين، الأولى قوله إن ليبيا ليست مصر ومعمر ليس مبارك، وهذا طبعاً ما كنا نسمعه من أباطرة الحزب الوطنى قبل 25 يناير، حينما كانوا يقولون إن مصر ليست تونس وثبت أن العكس صحيح، ما يدل على أن ثوار ليبيا يمشون فى الطريق الصحيح، والجملة الثانية هى قوله إن المصريين المقيمين فى ليبيا يشاركون فى الاحتجاجات على دكتاتورية أبيه، وهو ما دعمه إعلان الخارجية المصرية عن وفاة أحدهم وامتزاج دمه بدماء الشهداء الليبيين، وهذا ما كنت آمله من أبناء وطنى العظام الذين فاتهم أن ينضموا إلى ثورة 25 يناير فى مصر فلم يفوتوها على أنفسهم فى ليبيا، والذين يهبون إلى نجدة المظلوم والثورة على الظالم، والذين يرون أن للظلم وجهاً واحداً، فى ليبيا أو البحرين أو اليمن أو الجزائر كما فى مصر.
أشعر الآن أن الثورة المصرية قد تأكدت وبدأت فى الاكتمال، فأشد ما كان يحزننى فى لحظات انتكاسة الثورة المصرية هو أن تتوقف حركة التغيير عندنا بدلاً من أن تستكمل، فقد حملنا شعلة الحرية من تونس، كنت أشعر بمسئولية كبيرة وأخاف من الخزى إذا ما توقفت عندنا، والحمد لله لم يحدث هذا، وبدأت مصر تستعيد ريادتها المفقودة، وبرغم أنى لست من المؤمنين بالقومية العربية بشعاراتها القديمة، لكنى أثق تمام الثقة فى أن مصر قد استعادت دورها الفاعل فى المنطقة العربية، وما كانت تفعله رأس الحكم فى العهد الناصرى من مناصرة للثورات فى العالم العربى يفعله اليوم الشعب المصرى نفسه أفراداً وجماعات، وهو ما يحمل فى باطنه دلالة غاية فى الأهمية والروعة، وهى أن السلطة الفعلية فى مصر قد انتقلت بعد خمسين عاماً من الحكم العسكرى من رأس الحكم الذى كان يمثله جمال عبد الناصر والسادات ومبارك، إلى قاعدته التى يمثلها أفراد الشعب، فكل مصرى الآن يحمل مصر بداخله، ويدرك ما عليها من واجبات وما تمثله من قيم، أى أن مصر الآن "تتحدث عن نفسها" بجد.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة