هناك حالة اندهاش لدى بعض الناس من انتشار الثورات فى المنطقة العربية، وكأنها عدوى. وسارعت الأنظمة المتسلطة باتهام جهات خارجية ومندسين بالمسئولية عن تلك الثورات، ويتجاهلون أنهم طوال عقود يصرون على ممارسة نهب الثروات والقمع والقتل تجاه مواطنيهم. وكما ذكرنا فإن هؤلاء الحكام من "مبارك" لـ"بن على" و"القذافى" أو "على صالح" فى اليمن كانوا بأنظمتهم هم أكبر مؤامرة على شعوبهم، كما كانوا تابعين للغرب والأجهزة الدولية ويأتمرون بأوامرها ويحددون مواقفهم الخارجية طبقا لمصالح الدول الكبرى وليس طبقا لمصالح شعبهم.
أبدى بعض المحللين اندهاشهم من أن تقوم الاحتجاجات والتظاهرات فى وقت واحد وتنتقل كالنار بين تونس ومصر واليمن وليبيا والبحرين، وربما تمتد لغيرها وهى تغيرات وثورات شعبية تختلف عما جرى للعراق الذى كان هو الآخر يخضع لحكم متسلط وإن كان الانقلاب جاء بغزو أمريكى خارجى.
والحقيقة إننى عندما تلقيت أسئلة عن تفسير التزامن بين الثورات العربية الحالية، وما إذا كانت لها امتدادات خارجية كانت الإجابة بالنفى، والتأكيد على أن هذه الثورات وطنية خالصة، لم تتوقعها أجهزة الاستخبارات الأمريكية أو الغربية، وهى ثورات علنية، تم الإعلان عنها فى مفارقة تنسف نظريات الثورة التى استقر عليها محللو ومنظرو الثورات طوال عقود، فلم تكن الثورة المصرية أو التونسية ذات علاقات خارجية كما أنها لم تتم بانقلابات عسكرية وإنما تمت بشكل سلمى يحمل قدراً كبيراً من الوعى، وبمشاركة أجيال استوعبت التطورات التكنولوجية والسياسية والإعلامية.
الثورات المصرية والتونسية والليبية هى الموجة الثانية للاستقلال بعد الثورات التى جرت فى العالم العربى من شرقه لغربه للاستقلال عن الاحتلال البريطانى أو الفرنسى أو الإيطالى، وكانت موجات الاستقلال الأولى بدأت من بدايات القرن العشرين واستمرت حتى حصلت الدول العربية على استقلالها بانقلابات عسكرية أو مقاومة شعبية سلمية ومسلحة.
وصلت الموجة الأولى للاستقلال قمتها بعد الحرب العالمية الثانية، وحصلت الدول العربية على استقلالها وتولى الحكم فيها أنظمة وطنية، لكن هذه الأنظمة الوطنية نعت لنفسها أنظمة حكم تقوم على ما بناه الاستعمار الاحتلالى، وأقامت أنظمة حكم متسلطة تفترض أن الشعب لا يحق له أن يكون شريكاً فى الحكم وإنما تابعا لسياسات اعتقد واضعوها أنها الأفضل، وكانت تلك الأنظمة تفكر للشعب وتشرع له.
استمر المؤسسون الثوار فى الحكم لفترات تفاوتت بين عشر سنوات أو أكثر، كانت ثورة يوليو التى بدأت بانقلاب أيده الشعب فى مصر وكانت الأكثر تأثيرا فى المنطقة، حيث قامت أنظمة مشابهة فى الجزائر وتونس والمغرب مع اختلافات بين حكم ملكى وآخر جمهورى، وظلت أنظمة شمولية تفتقد إلى البناء الديمقراطى وتقوم على نظام الحزب الواحد أو الأحزاب الشكلية.
ومع رحيل عبد الناصر تولى السادات الذى واصل الحكم الفردى بشكل يحمل تعددية شكلية، لكن حين تولى مبارك واستمر فى الحكم لفترات متتالية بشكل فردى ديكتاتورى قضى سنوات طويلة جمد فيها الأحوال السياسية وحرم الأغلبية من المشاركة.
ومع طول المدة فكرت الأنظمة الجمهورية فى توريث ونقل الحكم إلى الأبناء، بدأ الأمر فى سوريا عام 2000 بتلاعب أنهى فكرة الحكم الوطنى ليدخله فى نظام استبدادى آخر وانتقلت الفكرة إلى مصر وتوسعت لباقى الدول العربية، وانتهى دور المؤسسين إلى دول يتوارثها العسكريون أو الأبناء وأصبحت الأنظمة العربية تعمل وتتصرف مثل الاحتلال.
الاحتلال يحكم المستعمرات بطريقة تضمن له نهب ثرواتها ويحكم من خلال القوة العسكرية والقمع والحكم الوطنى التابع وهو ما فعلته الأنظمة الوطنية، حيث أقامت تلك الأنظمة ما يشبه المستعمرات، فالمواطنون محرومون من حقوقهم وثرواتهم مستباحة، وكل هم النظام الحاكم لحسنى مبارك أو بن على أو القذافى هو البقاء، والإثراء مع مجموعة من التابعين الفاسدين ينهبون الثروة ويحتكرون السلطة.
لقد تحولت أنظمة الحكم المتسلطة إلى ما يشبه احتلالا خارجيا، تعاملت بنفس الأساليب، نهب الثروات، والحكم الفردى المحاط بعصابة مهمتها السيطرة وتأمين مصالح الحاكم، واستبعاد الشعب من المعادلة، استمرت هذه الأنظمة عقودا دمرت المؤسسات وركزت السلطات، واحتكرت المال والسلطات كلها، وتحولت إلى نفس شكل الاحتلال الأجنبى، ولهذا ظهرت آمال الشعوب فى الاستقلال الثانى، وهو ما تحقق فى ثورات مصر وتونس وليبيا، واليمن التى كان الشعب طرفا فى معادلتها، ليسترد بلاده من الاحتلال الوطنى، الذى كان فى بعض الأحيان أسوأ من الاحتلال الأجنبى.