مع تزاحم الحديث فى وسائل الإعلام عن بنوك سويسرا التى يحتفظ فيها ملوك ورؤساء عرب بمليارات الدولارات سراً، ومع ما يتردد أيضا عن الثروة الهائلة للرئيس السابق حسنى مبارك وأسرته فى هذه البنوك، أنقل قصة رواها الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين فى كتابه الرائع "محاوراتى مع السادات"، وبالرغم من مرور 35 عاماً عليها، إلا أن إعادة قراءتها يفيد كثيراً فى معرفة الذمة المالية لرؤساء مروا على مصر، كما يفيد فى تكوين وجهة النظر فى شخصية وبرنامج الرئيس الجديد الذى سيختاره الشعب المصرى.
وقائع القصة دارت فى الكويت عام 1976 أثناء زيارة الرئيس أنور السادات إليها، وكان أحمد بهاء الدين يقيم فيها وقتئذ ويشغل موقع رئيس تحرير مجلة العربى، وكان السادات يطلبه من الكويت فى مناسبات معينة، إما لكتابة خطاب سياسى هام له، أو للتشاور فى بعض الأمور.
يحكى بهاء أن هذه الزيارة بالتحديد من السادات إلى الكويت، جاءت فى ظرف سيئ تمثل فى الحملة الشرسة ضد ثورة يوليو عام 1952 وضد جمال عبد الناصر، ويقول بهاء: "كانت هذه الحملة قد وصلت فى مصر إلى أقصاها، وكان هذا يلقى اشمئزازاً شديداً من الرأى العام والصحافة فى البلاد العربية بوجه عام".
يضيف بهاء: "كان الاعتقاد الشائع، وهو فى تقديرى صحيح تماما، أن السادات هو مخطط وموجه هذه الحملة، وأنه يسخر صفحات الإعلام المصرى لحزب الانتقام من الثورة ومن جمال عبد الناصر، وكان كلما اشتدت الحملة وبدأت تحدث رد فعل مضاد، ينتهز السادات مناسبة فى إحدى خطبه ليعلن أنه أمين على اسم عبد الناصر وسمعته وعائلته، ولكن بطريقة لا يخفى على أحد أنها تمثيلية على طريقة خطبة أنطونيو المشهورة:"ولكن بروتس رجل نبيل"، وقد صارت عبارة "الله يرحمه"، كلما ذكر جمال عبد الناصر نكتة شائعة إذ كان كل من يسمعها يفهمها على أنها تعنى العكس تماما".
يضيف بهاء: "كانت إحدى قمم تلك الحملة هى اتهام جمال عبد الناصر بأنه اختلس عشرة ملايين دولار، كانت قرضاً من الملك سعود لمصر، وأمر السادات بتشكيل لجنة لبحث الموضوع تحت ضغط الرأى العام، وحين تم التقرير الذى أكد براءة عبد الناصر من هذا الاتهام السخيف الرخيص، كان السادات يلقى خطاباً فى البرلمان، فأعلن أن التقرير يبرىء عبد الناصر وأنه يودع التقرير أمانة مجلس الشعب"، ولم ينشر التقرير على الناس، وتلك كانت طريقته "السادات" فى بقاء الشبهة تحوم فى الفضاء".
ويصل بهاء إلى الربط بين زيارة السادات إلى الكويت وحملة الهجوم على عبد الناصر، بقوله: إن يوم الزيارة صادف تصديق مجلس الأمة الكويتى على آخر اتفاقية تكمل انسحاب الشركة الإنجليزية التى كانت تحتكر بترول الكويت، وتسليمها آخر ما بقى من نصيب لها إلى حكومة الكويت، ويضيف بهاء أن النواب الكويتيين من كل الاتجاهات انتهزوا الفرصة، ليردد كل منهم فى تعليقه على نجاح الكويت فى المفاوضات وفى امتلاك بترولها كله، أنه لابد فى هذه المناسبة من ذكر جمال عبد الناصر الذى كان أول من قال "بترول العرب للعرب"، فى وقت كان يبدو فيه هذا الكلام حديث خرافة، وذكره فى كفاحه الطويل لتكسير أنياب الأسد البريطانى مما جعل إنجلترا تغير سياستها، وتسلم على مائدة المفاوضات بما لم يكن أحد يستطيع أن يحدثها فيه، ويؤكد بهاء أن جزءاً من خطابات هؤلاء النواب كان مقصودا به أن يسمعه أنور السادات.
كان بهاء مدعواً إلى مأدبة العشاء الرسمية التى أقيمت للسادات، وفى هذه المأدبة وقع حادث غريب ومفاجئ، يرويه بهاء قائلا: إن أحد كبار القوم من الكويتيين تقدم إلى السادات وقال له على مسمع من الموجودين المحيطين: "يا سيادة الرئيس، نحن لا نقبل أن يقال فى مصر إن جمال عبد الناصر قد اختلس عشرة ملايين جنيه، وأنا شخصيا ويشهد كل الإخوان الواقفين، كنت ضد جمال عبد الناصر، وكنت ضد حرب اليمن بالذات، ولكن أن يقال إن جمال عبد الناصر الذى كانت خزائن مصر كلها فى يديه، وخزائن العرب إذا شاء، قد اختلس عشرة ملايين دولار، فهذا عار على الأمة العربية كلها التى كان جمال عبد الناصر، شئنا أم أبينا، رمزاً لها فى العالم كله، وإننى أطلب من سيادتك أن تقول لنا أى مبلغ ترون أنه فى ذمة جمال عبد الناصر للخزانة المصرية، وسوف ندعو الشعب الكويتى للتبرع به وتسديده عنه، وسيجمع الشعب الكويتى أى مبلغ فى أقل من 24 ساعة".
ومن الكويت إلى مصر ينتقل أحمد بهاء الدين فى سرد باقى فصول هذه القصة قائلا: "كان رئيس اللجنة الذى اختير لفحص الموضوع وتقديم التقرير هو المرحوم الدكتور على الجريتلى، أحد أنبغ خبراء وزراء مصر الاقتصاديين وأكثرهم نزاهة وسمعة دولية، واستقال من منصب وزير الاقتصاد من حكومة الثورة عام 1957، ولم يقبل من وقتها، رغم تكرار المناسبات، أى عرض للعودة إلى السلطة، واكتفى بعالم الاقتصاد الخاص والبنوك الدولية".
ويضيف بهاء أنه قابل الجريتلى مرة بعد حكاية التقرير وإيداعه مجلس الشعب فسأله عن التقرير فرد الجريتلى: "إننى لم أسمح لأحد فى اللجنة أن يشاركنى فى العمل، وقد قمت شخصيا بمتابعة كل الموضوع حتى الذهاب بنفسى إلى مكتب أصغر موظف فى وزارة الخزانة والاقتصاد لفحص كل ملف بنفسى، وقد كانت هذه أول مهمة أقبلها من الدولة الرسمية منذ سنة 1957، وقد قبلتها لأننى كنت واثقاً من النتيجة، فقد كان عبد الناصر أكثر كبرياء من أن يقبل بأى إفساد له".
استطرد الجريتلى لبهاء قائلا: "بعد موت عبد الناصر بسنة تقريبا كنت فى مقابلة مع رئيس البنوك السويسرية، وإذا به يقول لى إن المخابرات الأمريكية والمخابرات الإسرائيلية قد "أهلكتنا" شهوراً طويلة، وسألته لماذا؟ فقال لى الرجل السويسرى: "لقد حاولوا بأى طريقة العثور على أى حساب باسم جمال عبد الناصر فلم يجدوا".
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة