أسهل إجابة على أى كارثة تحدث فى مصر هى كلمة من ست حروف "مؤامرة" .. حتى أثناء زلزال التسعينات أشيع بيننا أن سبب الزلزال هو إسرائيل وتجاربها النووية التى حطمت القشرة الأرضية، وأدت إلى تصدع الأرض فى مصر مما نتج عنه الزلزال وتوابعه، كلام جامد ويبدو علمى مدروس ولكنه (هجس).. وسر تداول نظرية المؤامرة بيننا أنها مريحة تخرجنا من مرحلة حساب الذات إلى مرحلة حساب الآخر (فاعل المصيبة الوهمى)، خاصة أننا جميعا نحمل جينا فرعونيا قديماً يرفض مسئولية المصيبة ويرميها بسرعة على الأعداء.. ولأن الأعداء الآن هم رجال وأعوان النظام السابق فقد كان من السهل علينا جميعا أن نقول إنهم أسباب كل الأحوال السيئة والمظاهر المنحرفة التى جاءت بعد الثورة ونشتم فيهم ونسب أجدادهم وخلصت ..
قد نقتنع بمسئولية تلك الأطراف عن بعض التجاوزات، ولكن فى حدود ما تبقى من نفوذهم كحرق وفرم الآلاف من أوراق ومستندات أمن الدولة أو نشر اتهامات وإشاعات ملوثة عن الجهاز المركزى للمحاسبات ومحاولة العبث بمستنداته أو بمصداقيتها، ولكن اعذروا تفكيرى المتواضع لو رفضت فكرة المؤامرة فى تفسير الفتنة الطائفية الأخيرة التى امتدت من أطفيح ووصلت حتى منشية ناصر والقلعة، فهؤلاء المتآمرون مجرد فئران يا سادة أضعف بكثير من هذه الكارثة، وإذا امتلكوا المال فهم لا يمتلكون النفوذ إلى النفوس وحقن المسيحيين والمسلمين فى وقت واحد ولا يمتلكون جراءة التلاعب فى هذا الوقت الصعب وليس لهم أذرع طويلة كما نظن، بل هى قصيرة جدا حتى إن معظمهم فى السجن أو خارج البلاد أو يجلس فى بيته كالنعامة، يقول الفيلسوف الفرنسى فولتير (إن الشك ليس وضعا مستساغا، لكن اليقين حماقة)، لذلك دعونى أعرض محاور أخرى للفتنة قد يكون بعضها مستساغا.
أولا العصبية والتعصب الدينى.. فعندما يجرم النشاط السياسى ويحرم فى المجتمع لأكثر من خمسين عاما.. تصبح مفاهيم العصبية والعزوة والنعرة الطائفية هم البديل عن الأحزاب والنقابات والتيارات السياسية.. وكلما قل الشعور بالعدالة الاجتماعية كلما تعاظم الشعور بالقبلية.. ومع انخفاض حرية الأفراد يزداد البحث عن حقوق الفئات والطوائف ولو على حساب مصالح المجموع.. لينقسم المجتمع على نفسه وتضيع فكرة الكيان الواحد أو المواطنة بلا تمييز.. علاقة المسلمين بالمسيحيين كانت ضحية لكل السلبيات السياسية والاقتصادية والثقافية التى عشناها لسنوات عديدة فأصبح هناك صف للمسلمين وآخر للمسيحيين وهناك خط همايونى نعرفه ولا نراه يفصل بين الاثنين..
فيكفى أن تقول فى الشارع إن هناك مسلمين يضربون مسيحيين أو أن هناك مسيحيين يهجمون على مسلمين حتى يقوم الشارع كله بلا هوادة ومن الطرفين.. لن تحصل على هذا الكم من التوتر والتعصب فى أى حالة أخرى.. وغالبا ما يكون هذا التعصب أعمى لا يهتم بالتفاصيل بقدر اهتمامه بالموقف.. وكانت النتيجة أن يموت أكثر من 13 مصريا ويصاب 114 فى معركة مفاجئة وعشوائية بين الطرفين وبلا ترصد بدأت فى صلاح سالم وامتدت إلى منشية ناصر ووصلت حتى القلعة.. فحتى لو افترضنا وجود مؤامرة فى تحفيز الأطراف وإثارة مشاعرهم فهى ليست أكثر من محاولة إشعال القنبلة وأنا أفضل أن نهتم بالتخلص من القنبلة بدلا من التكهن بمن يشعلها.
والتخلص من تلك القنبلة يبدأ بمساواة حقيقية بين المسلمين والمسيحيين فى كل شىء حتى فى تولى مسئوليات الدولة ومناصبها السيادية وتعديل المادة الثانية من الدستور ليتناسب مع حقوق الأقباط الدينية والاجتماعية فى مصر بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، يجب أن نخلق فى الشارع ثقافة جديدة من خلال الإعلام والمؤسسات التعليمية تؤثر فى الأجيال الحالية وتنمو مع الأجيال القادمة لتعود العلاقة، كما عرفناها فى كتب التاريخ (سمن على عسل) يا عسل..
والمحور الثانى بعد التعصب هو الفقر فنصف المسلمين والمسيحيين يعيشون تحت خط الفقر.. وادعى أن كافة القتلى والمشاركين فى تلك المعركة من أبناء الفقر الكافر.. والفقير ضعيف مهما بدا عليه غير ذلك يسعى دائما لتأكيد عصبيته وانتماءاته أملا للوصول إلى مستوى حياة أفضل.. وبعد الثورة انطلق بركان غضب من تلك الطبقة المحقونة والمطحونة ظهر فى عشرات المظاهرات العمالية أو الفئوية وفى اعتصامات المناطق المحرومة من الخدمات الممتلئة بالعاطلين والمشردين واتضحت ملامحه فى حجم الجرائم والسرقات الذى تضاعف حتى وصل إلى مدارس الأطفال لم تكن مؤامرة عملاء النظام السابق بل كانوا جائعين هم الباحثون عن الانفلات للوصول لأى حقوق و لو منهوبة أو مسروقة.. وأتفهم جيدا أن وضع الدولة لن يعالج مشكلة الفقر بين يوم وليلة حتى لو حكمنا نبى ولكن يجب أن نفهم أن ظواهر العنف المتعددة فى المجتمع سببها الأساسى هو الفقر والظاهرة المليونية التى نمت بيننا تحت شعار أطفال الشوارع هم نفس أفراد الظاهرة التى نتحدث عنها الآن تحت اسم (البلطجية).. والحل الوحيد لتلك الفئات أن يحتضنها المجتمع والدولة من خلال خطة مدروسة للتشغيل ورفع مستويات المعيشة وأعتقد أن للجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدنى دور كبير فى هذا الشأن خاصة لو عملت بما يرضى الله ويفيد المجتمع وليس مجرد مناصب شرفية ومؤسسات تربح، ولا تنفق يجب أن يكون هدفها هو تحسين حياة الفقراء وليس تحسين حياة رئيس الجمعية.
تلك بعض المحاور التى أجزم بأهميتها فى قراءة الفتنة الأخيرة والفتن الأخرى التى سبقت الثورة بأيام وأسابيع.. كل خوفى أن نظل نبحث عن الأيدى الخفية والفاعل هو أيادينا السلبية أن نقف عند حدود المؤامرة ونترك الأمور متصاعدة بلا حلول أو خطة لنزع الفتيل ودفن القنبلة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة