الحمدُ لله أن المعظمَ الساحقَ من قرائى مستنيرون ومثقفون، يتقنون «فنَّ القراءة»، الذى علّمنى جدى محمد إبراهيم سليمان، رحمه الله، أنه أصعبُ من «فنّ الكتابة». لأنه يحتاج أولا إلى اختيار ما نقرأ. وهذا عمل عسِر. لأن «اختيارَ المرءِ جزءٌ من عقله»، كما قال السيوطى.
ثم إنه تأمُّلٌ لكل كلمة نقرؤها، وتبصّرٌ فى دلالة مواقع الكلمات وإيقاعها وترتيبها، ثم الانتباه لعلامات الترقيم والتشكيل التى تبدّل المعنى. ثم هو، بعد كل هذا، تدبُّرٌ واعٍ ومثقف لمضمون الكلام: رمزيته ومجازيته وحَرفيته، ومحاولة البحث فى عمق الكلمات وأسرار اللغة الخبيئة، التى لا يعرفها إلا محترفو القراءة. ثم الغوص بين السطور لاقتناص الطاقة التى تشعّها الكلمات، وإن لم تصرّح بها. هكذا تعلّمتُ دائمًا أن القراءة «الحقّ» ليست مهمة سهلة، ومن هنا أولى كلَّ اهتمامى لكل حرف أكتبه، احترامًا للقارئ وتقديرًا له. وبينما معظم قرائى مثقفون مستنيرون، إلا أن الأمر لا يخلو من «الهواة»، الذين قد يخفقون فى درس القراءة، بل فى درس الوجود ذاته. إلى أولئك الأعزاء هذا المقال.
لأننى أتناول كثيرًا حقوقَ الأقباط المهدرة فى بلادنا، ظنّ بعضُ أولئك أننى أهاجم الإسلام! بل ظن البعضُ أننى على وشك اعتناق المسيحية! وانطلق الخيالُ بالبعض فأعلنوا أننى تنصّرت، «بس مكسوفة» أعلن الأمر! ورغم أن تلك الترهات ركاكةٌ لا تستحق الرد، تُضحك من يسمعها، إلا أن تفكيرهم على هذا النحو يحمل ملمحًا خطيرًا بالفعل، لأنهم يقدّمون صورةً مشوّهة عن دينى: «الإسلام»! وكأن الإسلامَ يحثُّنا على معاداة المسيحىّ! وهذا مضمون مقالى.
بدايةً، أودّ أن أقول إن غزارة كتاباتى عن الملف القبطى «المسكوت عنه»، سببها قلّةُ تناول هذا الملف الشائك (لا أدرى لماذا هو شائك مع أنه شأنٌ وطنى!) من قِبل الكتّاب الشرفاء الذين لا يغازلون الأكثرية بالضغط على الأقلية. ورغم وفرة أولئك الكتاب الكبار الذين دافعوا عن الأقباط مثل الأساتذة: إبراهيم عيسى، خالد منتصر، مجدى الجلاد، نبيل شرف الدين، وغيرهم الكثير، إلا أن حجم الكتابة، فى مجملها، مازال لا يكافئ ما يقع على أقباط مصر من غُبن ثقيل قوامه خمسون عامًا، خاصةً فى العامين الأخيرين 2010-2011. لذلك أحاول أن أعدل هذه «الكفة المايلة» بتكثيف كتابتى. فالمسيحى يحتاجُ أن يشعرَ أن المسلمَ يشعرُ بهمومه. ويلاحظ القارئ أن صوتى يخفُت كلما كتب كُتّابٌ آخرون انتصارًا للأقباط، ويعلو كلما صمتوا. وتزيد المشكلة ثقلاً بصمت المسيحيين أنفسهم عن المطالبة بحقوقهم، ليس خوفًا من الأغلبية كما يظن البعض، بل لأن دينهم يحضّهم على الصمت والسماحة وتحمُّّل الأذى الأرضىّ؛ طمعًا فى ملكوت السماء. حيث يقول لهم كتابُهم: «طوبى للحزانى، لأنهم يتعزّون- غير مُجازينَ عن شَرّ بشرٍّ، أو عن شتيمة بشتيمة- أحبُّوا أعداءَكم، باركوا لاعنيكم، أَحسنوا إلى مُبْغضيكم».. إلخ.
أقولُ بكل اطمئنان إن المسلم الذى يظلم مسيحيًّا أو يهدم داره أو يرميه بكلمة نابية، استغلالاً لصمته، فإنه بهذا يُغضبُ اللهَ دون شك، ويقدّم صورة رديئة للإسلام الذى يحثّ على الرحمة والعدل والأدب. لهذا سيكون الرسولُ حجيجَه يوم القيامة كما وعد، وتوعّد. وعلى النقيض من ذلك، فإن المسلم الذى ينتصرُ لأخيه القبطىّ، احترامًا لصمته الذى يحضّه دينُه عليه، فإنه بهذا يُرضى اللهَ ويقدم صورةً طيبة للإسلام، وللمسلمين. وهذا بالضبط ما أحاول فعله فى مقالاتى طمعًا فى وجه الله؛ ذاك أننى أؤمن أن أول سؤال سوف يسأله اللهُ لنا يوم النشور: هل رأيتَ مظلومًا وصمتّ عن نُصرته؟ ويخبرنا الله أنه قد يسامح عبدًا فى حق من حقوقه هو الله، لكنه أبدًا لا يسامحه إن ظلم عبدًا آخر، حتى يصفح عنه هذا الآخر. وبهذا يكون الدفاع عن المستضعفين فى الأرض، وفى بلادهم، هو صلبُ الدين وجوهره، كما أفهمه.
أفهم أن الدين هو حسنُ العمل وإتقانه، وقول الصدق، ومحبة الناس واحترامهم، وعدم الفُحش فى الفعل أو القول، والرفق بالضعيف، واحترام الكبير، ومراقبة الله فى السر وفى العلن. أفهم أن الدين هو العدلُ وعدمُ الانحياز لإنسان دون إنسان. هو نُصرة المظلوم بالدفاع عنه، ونُصرة الظالم بردّه عن ظلمه. أفهم أن الدين هو النظافةُ فى القول والفعل، مثلما هو فى البدن وفى المكان. أفهم أن الدينَ المعاملةُ وعدمُ الإساءة للآخر وسوء الظن به. أن نضع أنفسنا مكان الناس لندرك كيف يشعرون. نحسُّ آلامهم، فنتجنب تزكيتها، وندرك مكامن فرحهم فنسعى إلى ترسيخها. لأننى أفهم أن الله، تبارك اسمه، لم يخلق آلهةً على الأرض، بل خلق بشرًا ضعافًا، تقفُ القشةُ فى أحداقهم كأنها جبال ضخمة، كما قال الشافعى، وتلدغهم بعوضةٌ ضئيلة فترجف أوصالهم وقد تقضى عليهم. أفهم أن الله يحب عباده جميعًا على قدر واحد، لأنهم جميعًا خلقه وعباده وصورته على الأرض، لأنه عادل، بل هو العدل المطلق. أفهم أن كلَّ نفس بما كسبت رهينة، فالبشر رهنُ ما أتوا فى الدنيا من حسنات وسيئات، كبُرت أم صغُرت. وأنه تعالى لم يكلف أحدًا بحساب أحد فى الأرض، لأنه لا يجوز أن يحاسب خطّاءٌ خطّاءً، فذلك شأنُ الله وحده جلّ فى علاه.
مستحيلٌ أن أصدق أن الدين يُمكن اختصاره فى إعلان المرء بصوت عال غليظ عن دينه. وسبّ مَن لا يدين بهذا الدين؛ وهو يظن جهلاً أنه بهذا ضمن الجنة، دون عبء العمل والاجتهاد ومجاهدة النفس الأمارة بالسوء ومحبة الناس وحسن المعاملة وعفّ اللسان ونظافة اليد.
الحقُّ أن مشعلى الفتنة هم مفجرو الكنائس وهادموها، وكذلك الصامتون عن نصرة الأقباط. أما من يفتحون الجروح لتنظيفها وتطهيرها، وهذا فرضُ عين على كلّ مسلم، لا فرضَ كفاية، فإنهم هم مَن يرأبون الصدع حتى يلتئم نسيجُ المواطَنة، الذى عاش خمسة آلاف عام متماسكًا متينًا، قبل أن تحاول الحكوماتُ والأنظمة الظالمة تمزيقه، بنصل بغيض.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة