بعد نشر مقالى الذى حمل عنوان "غسيل سيدة مصر الأولى"، أبدى الكثيرون تأثرهم بما جاء فى المقال عن أم الشهيد محمد محمود أمين, بل وأشار البعض إلى أنه رآها فى ميدان التحرير كما رأيتها, حيث قابلتها مرتين, فكانت فى المرة الأولى شاردة، صامتة، باكية، لا تتحدث، تجوب الميدان، وهى تحتضن صورة ابنها ولافتة مكتوب عليها "يا ناقص يا خسيس دم الشهيد مش رخيص.. أم الشهيد محمد محمود"، وكان ذلك قبل قرار تنحى مبارك, بينما وقفت كالوتد حين قابلتها فى المرة الثانية فى جمعة النصر، وهى تحمل علم مصر وتهتف مع المتظاهرين فى الميدان، "الشعب يريد إعدام حبيب العادلى.. عاش الشعب المصرى عاش.. دم الشهدا ماراحش بلاش" ثم تبحث عن صورة ابنها الشهيد بين صور الشهداء المرفوعة فى الميدان أو فى أيادى المحتفلين بالنصر, تقبلها ثم تقف ووجهها يتصبب عرقاً وصوتها يحمل قوة غريبة لتقول كلمات وعبارات قوية تخرج من أعماقها لتخترق قلب كل من يسمعها, وفى مشهد لن أنساه وقفت الأم المكلومة لتقول "ابنى شهيد ودم الشهيد هوه اللى جمعكم هوه اللى خلاكم إيد واحدة, دم الشهيد هوه اللى خلاكم تفرحوا, دم الشهيد طهر قلوبنا ونفوسنا, دم الشهيد هوه اللى خلاكم تقولوا للظلم لأ وللفساد لأ وللسفاح لأ وللحرامية لأ, الشهيد مات علشان إنتوا تعيشوا, ودمه هوه اللى خلى كل مصرى يرفع راسه ويقول أنا مصرى, هوه اللى رجع كرامة مصر ورفع رايتها عالية, دم الشهدا مش سهل, دم الشهدا غالى وتمن الحرية غالى, دم الشهدا ماراحش هدر, دم الشهدا هوه اللى طهر البلد وهوه اللى رجع لنا الحرية"، ظلت تردد هذه العبارات بلا توقف، بينما التف حولها المئات.
حاولت كما حاول غيرى تهدئتها، قال لها البعض "لا تحزنى يا أمى ابنك فى الجنة", فأجابت بثقة "أنا عارفة إن ابنى فى الجنة علشان قال للظلم لأ وللفساد لأ, كل الشهدا فى الجنة, ابنى كان كاتب كتابه وأنا شوفته النهارده عريس فى الجنة، والناس كلها فى الميدان بتهنينى, أنا شايفاه النهارده فى وشوش الناس كلها وفى فرحتهم".
يزداد وجهها احمراراً ويتصبب منها العرق، بينما يرفع عدد من الشباب علم مصر فوقها كى يحميها من الشمس, يكاد صوتها يرتفع إلى عنان السماء، وهى تقول "حبيب العادلى لازم يتعدم لازم يموت هنا وكل أم شهيد تقطع حتة من جسمه، السفاح لازم يتعدم هنا, طالبوا بأنه يتعدم فى ميدان التحرير مكان دم ولادنا ولحمهم اللى اتبعتر فى الميدان"، تظل تصرخ، مرددة هذه الكلمات بصوت قوى، بينما ترتفع أنفاسها ويرتجف جسدها, وتفشل كل محاولات تهدئتها، فترد قائلة "أنا كويسة.. أنا بخير"، وتظل تجوب الميدان بلا توقف.
بالكاد استطعت الحصول على رقم هاتفها حتى أطمئن عليها, فقد شعرت حينها أن قلبها سيتوقف من شدة الانفعال, حاولت الاتصال بالرقم مرات عديدة دون رد, وحين كتبت مقالى اقترحت أن نطلق لقب سيدة مصر الأولى على هذه السيدة العظيمة وغيرها من أمهات الشهداء كى نغسل هذا اللقب ونطهره مما علق به من شبهات ونمنحه بعداً ثورياً يذكرنا بثورتنا على الأصنام, فلا نطلقه إلا على من تستحقه، ومن دفعت ثمن حريتنا من دمها ولحمها وروحها, وجاءت معظم التعليقات تشير إلى الإعجاب بالفكرة وبضرورة تكريم أمهات الشهداء فى عيد الأم, وتأثر الكثيرون بكلمات أم الشهيد محمد محمود أمين وحزنها, وطلب البعض أن ندله على طريقة للتواصل معها, وظللت أحاول الاتصال بها دون جدوى, وأخيراً ومنذ يومين ردت على الهاتف سيدة, فأسرعت لأسألها إن كانت هى أم الشهيد محمد محمود أمين, ولكننى شعرت بصدمة شديدة حين انفجرت السيدة فى البكاء، مشيرة إلى أنها شقيقتها وأن أم الشهيد محمد محمود قد توفت منذ أسبوعين بعد أن دخلت فى غيبوبة عقب عودتها من ميدان التحرير ثم انقطع الاتصال.
تسمرت قدماى ولم أتمالك نفسى من الحزن على هذه السيدة العظيمة التى ظلت صامدة ولم تغادر ميدان التحرير حتى أخذت بثأر حبيبها, عدت إلى الفيديو الذى سجلته لها وهى تقول آخر كلماتها فى ميدان التحرير, شعرت بقوة وعظمة هذه السيدة التى جاءت كلماتها وكأنها تحمل رسالة الملائكة, رسالة الشهداء إلينا جميعاً، شعرت أن مثل هذه السيدة لا يلد ولا يربى إلا أبطالاً وأحراراً نعيش جميعاً بفضل تضحياتهم ودمائهم.
لم تستطع هذه الأم فراق ولدها وفاق عذابها كل احتمال, ولكنها صمدت فقط كى ترى حلمه بالحرية يتحقق وحينها لم يستطع هو أيضاً أن يراها تتعذب دونه، فمد يده ليمسح دموعها ويحتضنها ويحملها معه إلى الجنة.
اليوم عادت ابتسامة أم الشهيد محمد محمود أمين وزال عذابها, لم تعد تنتظر ولا تحتاج شيئاً, لا تحتاج ألقاباً ولا تكريماً.
اليوم اهنئى يا أمى وارقدى بسلام فى حضن ملاكك الطاهر، فلا فراق ولا عذاب ولا ظلم بعد اليوم, اليوم اقرأوا الفاتحة على من أردنا أن نمنحها فى عيد الأم لقباً، فمنحها حبيبها جنة تجرى من تحتها الأنهار.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة