أكتبُ هذا المقال صباح الجمعة 18 مارس، ليُنشر، إن شاء الله، صباح الثلاثاء، بعدما يكون المصريون قد أدلوا بأصواتهم فى الاستفتاء، غدا السبت 19 مارس، بـ(نعم)، أو بـ(لا)، على التعديلات الدستورية. عسيرةٌ هى الكتابةُ فى لحظات السيولة السياسية حيث تغيمُ التوقعاتُ ولا تستقرُّ الأحداثُ إلا لبرهة، لتنقلب الأمورُ بعدها رأسًا على عقب، خاصةً وقد اعتدنا، نحن المصريين، على حال الثبات السياسى الكسول عقودًا. فلم يكن مدهشًا أن تشهد تنصيبَ وزير يوم ميلاد ابنك، ويكبر الابنُ ويغدو شابًا ثم زوجًا وأبًا، والوزيرُ ذاتُه فى مقعده ذاتِه لم يبرحه! لذا كان من طرائف الثورة شعارٌ يحمله صبىٌّ يقول: «ارحلْ بقا، كفاية عليك أبويا وجدى!»
أدعو اللهَ أن يكون جميع المصريين قد ذهبوا وصوّتوا ولم يفرّطوا فى إعلان رأيهم الذى طالما كُتِم، ولأن المقال سينشر بعد التصويت، لا أجد حرجًا فى أن أعلن أننى أدعو الله أن يُتِمَّ نورَه علينا، ويُلهم الشعبَ أن يقول: «لا»، صريحة دامغةً لا لبس فيها، فليس من المعقول تعديل شىء غير موجود، فالدستور سقط بالفعل، بسقوط مبارك ونظامه.
أما حكاية «يتمُّ» نوره علينا، فذاك لأن نورَ الله قد غمرنا بالفعل يوم 25 يناير، ومازال يغمرنا، سواءً قال المصريون: «نعم»، أم «لا». لأول مرة منذ زمن يشعر المصرى أنه موجودٌ، وأنه مواطنٌ، وأن له صوتًا، وأن هذا الصوتَ محترمٌ. لأول مرة يتحدث الناسُ حول ضرورة المشاركة فى الاستفتاء، لأن: «صوتك يهمّ». لأول مرة يناقش المصريون بنود الدستور، وهل الأنسب لنا النظام الرئاسىّ أم البرلمانى، بعد عهود لم تكن سوى ماتشات كرة القدم بطلا للأحاديث والدردشات، انتعش الوعىُ السياسى لدى الناس، وندين بهذا ليناير الطيب.
قال يوسف إدريس فى كتابه الجميل: «أهمية أن نتثقف يا ناس»: «الثقافةُ هى المعرفةُ الممزوجةُ بالكرامة، فلو كانت الثقافةُ تعنى المعرفةَ فقط، لما اهتاجت السلطة، فماذا يهمها من سابلة الثقافة ورعاعها، إنما الذى يصنع الأزمة الدائمة هى الثقافةُ ذات الكرامة، لها إشعاعُها الخاص، تلمحه فى بريق العيون ووضاءة الجبهة وجلال العقل ونصاعة الموقف، إشعاعٌ يكشفُ الزيفَ ويصارعُ التلفيقَ ويضربُ المخاتلة».
قبل عام، تحديدًا يوم 21 أبريل 2010، استضافنى برنامج «90 دقيقة»، مع ضيفين آخرين، لنتحدث عن نائب البرلمان السعيد الذى أفتى بوجوب إطلاق الرصاص على شباب 6 أبريل للتخلص منهم! وتطرّق بنا الحديثُ إلى الدستور الراهن، واتفق ثلاثتُنا (معتز الدمرداش، وخالد صلاح، وأنا) على رغبة الشارع المصرى فى تغيير المواد: 76، 77، 88. تلك التى لا تضع سقفًا لمدد بقاء الرئيس على الكرسى، وتعوق ترشّح أحد سواه، كأنما هى مُفصّلة تفصيلاً على قدّه، وكذلك الإشراف القضائى على الانتخابات، بينما أقرّ رابعُنا (رئيس مجلس إدارة روزاليوسف المخلوع) بأن الشعبَ لا يريد التغيير! بل يحب مبارك ويريده رئيسًا أبديًّا! ثم سخر من وعى الشعب المصرى سياسيًّا، قائلا: «حضرتك لو نزلتى وسألتى الناس: نغير 76؟ هايقولولك يعنى إيه 76؟» فسألته: «ومَن المسؤول عن تجهيل الناس؟! الناس مطحونة بالجوع والفقر والمرض، لذلك يودون التغيير». وتحديته أن يأتى بمصرىّ واحد، خارج الحزب الوطنى، لا يريد التغيير، ثم أبديتُ اندهاشى من انفصاله عن نبض الشارع، وهو عضو الحزب الحاكم! فما كان إلا أن شتمنى على الهواء أمام ملايين المشاهدين قائلا: «ده حوار قرف قرف قرف، ولا تجادلْ الأقلَّ يسقط وقارك». هذا باعتبار أننى الأقل! طبعًا لأننى لستُ، مثله، عضوًا بالحزب الوطنى ولجنة السياسات! الحلقة، بشتائمها، موجودة على يوتيوب لمن يود.
أين هو الآن؟ الكلُّ يعلم الإجابة. المهم أنه لن يكون بوسعه، أو بوسع سواه، أن يرمى الشعبَ المصرى بالجهالة السياسية بعد الآن. بعدما أثبت الشبابُ أن لديهم وعيًا وفكرًا واستنارةً تفوق عُتاة الساسة. والأهم من كل هذا وعى الشعب بحقوقه، بعد عقود ظن أن لا حقوقَ له، فى مقابل أطنان من الواجبات والأعباء والمصاعب وعُسر الحياة. تلك الواجبات التى كان المواطنُ يتهرب منها بطبيعة الحال، لأن الحقوقَ والواجباتِ فعلٌ تبادلىّ ثنائىّ الاتجاه، لابد أن يعطينى الوطنُ الأمانَ والعدالةَ والحريةَ والآدمية، لكى أعطيه حبًّا وعملا وانتماءً، لكن النظام السابق، الطويل، كان يعتصر دماءنا وينهب جيوبنا الخاوية بالضرائب والمكوس والرشاوى، ولا يعطينا، فى المقابل، سوى القمع والترويع وإهدار الكرامة، ثم يرمينا بعد ذلك بالجهل، لكى يبرر لنفسه أن يحكمنا بعماء مستبد، بوصفنا شعبًا فاقدَ الأهلية وفاقدَ الوعى والعلم والمقدرة على التفكير السليم. «جوّع شعبك يتبعك»، «جَهّلْ شعبَك يتبعك» تلكما كانتا الحكمتين السمجتين اللتين حكمونا بهما طوال الوقت. فى هذا يقول الأبنودى: «إنسان هذا العصر يا ابنى خوّان/ لا يطيعك إلا إن كان عريان وجعان/ حاذر يشبع!» وظلّ هكذا الحال بيننا، نحن أرقى شعوب العالم، وبين حكّامنا الأراذل، إلى أن صفعهم ينايرُ صفعةً لن ينساها التاريخ، لكى يتعلم القادمون من الحكّام أن شعبنا حليمٌ، صبورٌ، ربما، لكن غضبته، حين يغضبُ، لا تعلوها غضبةٌ.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة