بعيداً عن حالة الاستقطاب والاستهبال التى أصابت بعض المتعصين والمتقافزين الذين يحاولون سرقة المشهد، فإن خروج الملايين للاستفتاء وتحمل الطوابير كان حدثاً تاريخياً، ليس على طريقة نظام مبارك والجمل والهلال الذى كان يعتبر افتتاح دورة للطاولة حدثاً تاريخياً، كان الحزب الوطنى يصوت للأحياء والأموات والمهاجرين والنائمين على صماخ آذانهم. ومثل كل شىء فى حياة المصريين كان الاستفتاء مصحوباً بالتنكيت والفكاهة، وربما يعانى البعض من إحباط أو فرح بسبب النتيجة، لكن الأهم هو أننا رأينا "شعبا مصريا للمرة الأولى"، بدلاً من الشعب البلاستيكى الذى كان يظهر فى الصور ويشرب الشاى مع مرشح الوطنى للرئاسة.
استمتعنا بمشهد الاستفتاء والطوابير، كما استمتعنا بنكت وقفشات قللت من الاحتكاكات ومنعت البلطجية واختفى الأموات من الصناديق.
المصريون فى أحلك الأوقات يسخرون من كل شىء من خصومهم، ومن أنفسهم ومن زملائهم، وكل هذا بدون أى شعور بالافتخار أو الفذلكة، والحقيقة أن ثورة 25 يناير كانت عظيمة، وأيضا ساخرة ورأينا كيف كانت النكتة سلاحاً فتّاكاً فى مواجهة شائعات خصوم وأعداء الثورة مثل اتهامات كنتاكى والقلة المندسة والأجندة.
أما الاستفتاء، بصرف النظر عن "نعم" أو "لا"، كان مؤشراً على سقوط الاتهامات بالسلبية، رأينا الشباب والعواجيز يقفون فى طوابير طولها كيلومترات بدون ضيق ولا تدافع، ولا تزاحم، وكانت الطوابير هى أول مجال للتنكيت على مبارك وحزبه وبلطجيته وجمله وهلاله، الذين كانوا يجرون استفتاءات وانتخابات لم يكن يذهب إليها أحد، ويصفونها بأنها تاريخية، مع أنها كانت تزويرية.
أول طوابير يقفون فيها باختيارهم، وليست طوابير أنابيب أو عيش، وكتب أحد ظرفاء الفيس بوك: "أمى بتقولى ياه لسه هنستنى كل الطابور ده"، قلت لها: "ما أنت بقالك 40 سنة بتقفى فى طوابير العيش يعنى هيا جت على دى.. على الأقل فى الطابور ده محدش هيجى يسرق بطاقات الاقتراع زى ما كانوا بيعملوا فى الدقيق". وأشار آخر ''مصر مبارك = طوابير الجمعية.. مصر بعد مبارك = طوابير الحرية''.
بينما كتب زميلنا الكاتب ياسر الزيات بعد ساعات فى الطابور "على فكرة اكتشفت أن الديمقراطية بتجوع"، بينما سخر أحدهم "شفتوا بقى مبارك كن مريح الشعب إزاى تقعد فى بيتك معزز مكرم وصوتك يروح للصندوق".. وعندما انتهت الصناديق خلال ساعة من بدء التصويت ومعها الحبر، اضطرت اللجان المشرفة لطلب عشرة أضعاف الصناديق، واضح أن مبارك والحزب الوطنى كانوا بيزوروا صندوق واحد ويصوروا البطاقات تطلع كلها بـ"نعم".
طبعاً الحبر الفسفورى البمبى كان له نصيب، وحرص المصوتون على رفع أيديهم بعلامة "الصباع"، ونشر الفيسبوكيون صور أصابعهم بالبمبى بجوار "بروفايلاتهم" كنوع من الفخر، وكتب مازن أمان الله، مراسل العربية، "كومنت"، وكالعادة ينتقل الشعب المصرى من مرحلة التصوير مع الدبابة إلى مرحلة التصوير مع صباعه"، و"لو صباعك مش بمبى متجيش جنبى.."، وأصبحت أغنية سعاد حسنى الشهيرة "بمبى.. بمبى"، شعاراً يؤكد أن الحياة بدون مبارك بقى لونها بمبى"، أو "أخيرا انتقل الختم من قفانا إلى أصابعنا"، وأحدهم كتب "قال لها: إذا كان عندى صباع واحد لونه بمبى، فده معناه إنى ثورى.. طيب وإذا كان عندى 3 صوابع بمبى؟ فقالت له، معناه إنك مزور". وابتكر أحدهم "كما قال الشاعر: أنا مش أهبل وسلبى.. أنا مصرى وصباعى بمبى"، وأضاف غيره شعار "البلد بلدهم (ده كان زمان) يوم الاستفتاء (البلد بلدنا).
حالة التنكيت انعكاس لحالة عامة انتابت المصريين من أنصار "نعم" و"لا"، ولم تكن النتيجة تعنى أن 14 مليون إخوان و4 ملايين فقط مش كده، وانعكس فى شعار "عاشت الـ"لا" مع الـ"نعم"، ورفع المصريون شعار "الاستفتاء التام أو الموت الزؤام".
وعندما كتبت "كومنت" "طوابير صناديق حبر فسفورى عبى شيل ديمقراطية حرية أحمدك يا رب"، علق أحدهم بأن الاستفتاءات والانتخابات السابقة كانت تتم فى مغارة الحزب الوطنى والأربعين حرامى، الوطنى بعد أن أعلن على موقعه التصويت بـ"نعم"، اتفاقا مع موقف الإخوان، وبدا مدهشا أن يتوجه أعضاء الوطنى لاستفتاء لا يكون فيه الجمل والهلال، وأتصور أن أعضاء الوطنى أعلنوا التصويت بـ"نعم" لأنهم لا يعرفون "لا"، ولم يسبق لهم استعمالها، وليس عندهم "لا" فى الكيبوردات، أما عن اتفاقهم مع الإخوان فيبدو أن الحزب الوطنى بعد أن قرر فصل مبارك اقترحت قياداته تعيين المرشد لفترة انتقالية.
ثم إن أعضاء الوطنى اعتادوا الهرولة إلى أى حزب حاكم وربما صدقوا أن حزب الإخوان سيفوزون فى الانتخابات القادمة ويصبحون حزب الأغلبية، فعلوها من حزب مصر إلى الوطنى مع السادات.
كل هذا التنكيت والسخرية يؤكد أن المصريين الذين خرجوا كانوا يبحثون عن المستقبل، وليس فى مباراة لتشجيع السلفيين أو الكنيسة، إنها نكت تسخر حتى من عقليات أصحاب الغزوات والألتراس.. وتؤكد أن مصر ليست تلك التى فى صندوق التعصب، بل هى مصر القادمة الساخرة.. ونكمل غداً.