كنا أطول اثنين فى المدرسة إلا أن شاربه الكثيف كان يضيف على عمره حينها سنوات عديدة.. كان صديقى الأقرب والأرجل فى المرحلة الثانوية كان يحب القراءة مثلى ونعشق تأجير الموتوسيكلات وأكل الشاورمة ومشاهدة السينما.. حتى فى المدرسة كنا نتشارك فى عدم إتقان لعب كرة القدم وبالطبع نرفض بلادة حراسة المرمى أو تفاهة التحكيم فكنا نكتفى بالتعليق على اللاعبين وتشتيت انتباههم والتنكيت على أدائهم المضحك (الأقرب لسحل الذات فى التراب).. وفى أحد الأيام فوجئت به وقد انتفخ صدره وزاد طوله وارتفعت رأسه ولف على زراعه قماشة حمراء كتبوا عليها (الشرطة المدرسية ).. أصبح "حازم" فجأة من الأعداء.. فهو يعرف الأبواب الخلفية التى أدمنتها للدخول متأخرا إلى المدرسة ويعرف أماكن التدخين والتزويغ والهروب من الحصص.. إلا أنه لم يخوننى أبدا ولم أخسره رغم استمرارى فى كل ذلك.. ودخل حازم كلية الشرطة بسهولة لأن والده كان لواء شرطة وللأمانة كان رجلا شريفا للغاية رغم أنه وصل لمنصب مساعد وزير الداخلية إلا أن حالتهم المالية لم تكن تسمح بالكثير من نواحى الترف أو البذخ.. وظل الرجل على عهد أبيه ولم أر عليه أو أعرف عنه أى فساد.
أما أجمل وأغرب صفات "حازم" هو ضحكته المدوية.. فجأة تسمع نكتة وبعدها انفجار مخيف لا يمكن أن يوصف (بضحك آدمى) كان أقرب لانفجار البراكين أو( طرقعة الحلل ).. كان من المستحيل وقتها أن تدخل معه فيلم كوميدى أو مسرحية ساخرة (هتتبهدل معاه).. إنسان يضحك فى تسيب بشكل لا إرادى رغم شاربه الكثيف.. إلا أن ضحكته الشهيرة اختفت فلم أسمع تلك الضحكة من 13 عاما ومنذ أن تخرج من أكاديمية الشرطة.. تغير كثيرا.. أصبح عصبيا متقلب المزاج يميل إلى الصمت وقلة الكلام والسرحان.. وحينما سألته عن أسباب التحول ؟.. دعانى لزيارته فى القسم وفتح لى الحجز وفوجئت برائحته الشنيعة التى تخترقك قبل الوصول إليه وأشار لعدد من المحتجزين قائلا
( ده قتل أخوه بالضرب المبرح حتى الموت عشان ألفين جنيه وده اغتصب طفلة 8 سنين وبعدها قطعها بالمطواة وده هجام فقع عين صاحب الشقة لما مسكه وده قواد على بنات الشوارع وده تاجر بودرة ومتخصص فى مدارس الأطفال وده وده وده ).. تجهمت من هذا المشهد المفاجئ وتلك الأشكال الغريبة والقصص الحقيرة.. أخذ يكمل حكاياتهم وأنا أسير صامتا حتى مكتبه.. وأذكر أنه ودعنى وهو يقول فى سخرية ( اضحك بقى وضحكنى معاك بعد كده) !!.. لم أتحدث معه بعدها عن سر انقلابه واختفاء ضحكته الصاخبة لقد صعق بهذا الشر المطلق الذى أجبر بأن يعيش فيه ويتعامل معه.. أحيط فجأة بأسفل أنواع البشر وأحقر أشكال الآدميين.. هذه الهزة النفسية عرفت أنها شائعة بين رجال الشرطة فى كافة أنحاء العالم خاصة الذين يعملون فى الجنايات وبين مجرمين الشوارع.. إلا أن مرحلة حازم الثانية كانت أسوء حيث سافر عدة سنوات إلى الصعيد لمكافحة الإرهاب.. وكنت أتجنب الحديث معه عن عمله فى الصعيد حتى لا يعيد تجربة الزيارة فأجد نفسى فجأة فى مواجهة رشاشات آلية وقنابل يدوية وقناصة.. وفى جلسة صراحة مفاجئة اعترف لى بشىء عجيب قال بالنص ( لقد أدمنت رائحة البارود مع الدم فالذى يطلق النار فى بطئ يموت بسرعة ) حكى لى يومها عن قائده الذى انفجرت رأسه و هو يجلس جانبه فى انتظار أوامر الاقتحام وعن زميله الذى ذبحوه وهو نائم فى مسكنه وعن العساكر الغلابة التى تموت فى كل مناوشة أو اقتحام.. اعترف فى سخرية بأنه يعيش فى خوف دائم وأن الكل جبان أمام طلقات الرصاص قال لى يومها أن من العادى أثناء التبادل الكثيف لإطلاق النار أن تجد أحد الضباط أو العساكر يبكى فى هستيريا أو يتبول على نفسه من الخوف أو يغمى عليه من الرعب.. قال نحن لا نطلق النيران بكثافة لأننا شجعان نحن نضرب النار لأننا خائفين.. واعترف لى قائلا بحسرة ( أنا لا أعرف أسماء من قتلتهم ولا أعرف هل هم مدانين بالفعل أم أبرياء كل ما أعرفه أننى إذا لم أقتلهم بسرعة فسوف يقتلونى أسرع ).. وبالطبع لم أعلق على كلامه وتجهمت كالعادة.. أما المرحلة الثالثة لحازم فكانت فى الأمن المركزى وقتها حكى لى عن العنف الشديد الذى يواجهونه فى المظاهرات وأنهم يردون بالمثل مرغمين لأن بعضهم مات بضربة حديدة أو إلقاء طوبة أو ضرب جماعى من المتظاهرين، قال (إن من الصعب معرفة من يبدأ بالعنف والضرب خاصة فى لحظة التحام المتظاهرين مع الشرطة ولكن فى النهاية تكون فى مواجهة ناس تضربك فأنت تجبر على حماية نفسك وتبادل الضرب معهم ).. صارحنى بشكه فى أن بعض العناصر قد يكون من مصلحتها زيادة اشتعال الموقف فتعمل على البدء فى استخدام العنف حتى لو من خلال أفراد خارج الطرفين.. المهم أن يشتعل الموقف وتزيد الأخطاء والسقطات والضحايا بين المتظاهرين والشرطة.. كان هذا الحوار منذ سنوات أثناء أحداث المحلة.. وللأسف الشديد لم أعرف حتى الآن موقع حازم من ثورة 25 يناير.. فالرجل أغلق هاتفه واختفى كالآلاف من رجال الشرطة.. أحيانا احنق عليه وأكره يوم معرفتى به لأنى أراه خائنا .. وأحيانا أتصور أنه قد يكون ضحية لمنظومة الفساد التى عشناها فى تلك الأيام والدور الغريب الذى قام به الآلاف من البلطجية الذى تبلور فى (معركة الجمال ) ألا يمكن أن نتصور أن النظام قد خدع الآلاف من ضباط الشرطة حتى يدفعهم لقتال الشوارع مع المتظاهرين من خلال تسلل تلك العناصر بين الطرفين.. خاصة أن العديد من الشهداء قد أطلق عليه النار من بعيد عن طريق قناصة لم تعرف هويتهم بعد فهل هم من الشرطة أم تدريب البلطجية أم مرتزقة كما فعلها القذافى، ثم إن التحام عناصر الشرطة مع تلك التجمعات الحاشدة من المتظاهرين قد يخلق عنف لا إرادى بين الطرفين وينتشر فى لحظات.. سامحونى يصعب على أن أصدق أن صديقى قاتل ومجرم بلا أسباب واعذروا حجتى لو كانت ضعيفة ولكن حتى لو كرهت حازم ورفضته هل يمكن أن أكره كل عناصر الشرطة وهل هناك مجتمع متحضر يرفض الأمن وتطبيق النظام وحماية الممتلكات.. ونظرة الكراهية العامة التى اخترناها الآن كإسقاط على احتقار النظام السابق وسقوطه هل تشمل شرطة المطافى أو السياحة أو الأموال العامة فما ذنب هؤلاء أم أن الزى الرسمى أصبح جريمة.. وإذا كنا نتحدث عن المرتشين والفاسدين فى الشرطة ألم يجدوا الآلاف منا ليرشوهم.. إذا لم يوجد الراشى فسوف يختفى المرتشى.. ثم أشيروا على فئة لم تتأثر بفساد الحكم السابق كل الفئات اجتاحها جشع وتربح واستغلال نفوذ.. حتى أن الأطباء الآن يتركونك تموت لو لم تكمل لهم الأتعاب.. نعم فيهم ما فيهم من الخطايا ولكنهم فى النهاية تلوثوا معنا وبنا فلماذا نحاكمهم اجتماعيا ونترك الفئات الأخرى ولمصلحة من هذه النيران التى لا تريد أن تهدأ بين المجتمع والشرطة بالتأكيد لمصلحة الحرامى واللص والبلطجى الذى تسيد الشارع الآن وأطلق الرعب فى قلوب المواطنين.. حازم إنسان جيد وأقسم على أنه ليس فاسد أو شرير ولكن وضعه فى النظام السابق أجبره على الوقوف أمامنا كالمتهم.. لن أدافع عن جريمته ولكن صدقونى هو والكثيرين من رجال الشرطة كانوا ضحية من البداية للنهاية.. فاحكموا عليهم بعقولكم وضمائركم..
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة