الكل يعرف أن المكانة المرموقة التى يحتلها الجيش المصرى فى قلب كل واحد منا تنهض بشكل رئيس على الدور الوطنى الذى لعبه هذا الجيش منذ تأسيسه عام 1820 وحتى الآن، فبامتداد قرنين من الزمان تقريباً حافظ الجيش على الوطن بقدر طاقته، فى الوقت الذى لم يعتدِ فيه على الشعب أو يثير حفيظته، مثلما فعل الكثير من ضباط الشرطة الذين ضربوا الناس وأذلوهم خاصة فى العقود الأخيرة.
هذه المكانة المرموقة يمنحها المصريون لجيشهم طالما كان يمارس مهامه العظيمة فى تأمين حدود الوطن من الأعداء الخارجيين، لكن حين يتولى الجيش السلطة السياسية، وأكرر السلطة السياسية، كما هو واقع الآن، فليس من حقنا أن نطرح عليه آراءنا بكل وضوح وصراحة فحسب، بل ونختلف مع بعض قراراته من أجل صالح هذا الشعب من وجهة نظرنا.
عندما أعلن عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية السابق بوجه متجهم فى مساء الجمعة 11 فبراير الماضى أن الرئيس مبارك قرر تخليه عن الحكم (وليس تنحيه، وإن كنت أرجح أن الجيش أجبره على الرحيل)، بعد أن فوض المجلس العسكرى إدارة شئون البلاد، أقول عند هذه اللحظة بالضبط تمت إضافة سلطات سياسية إلى الجيش، بجانب مهامه العسكرية. وعليه أصبح من الطبيعى أن نعترض على القرارات السياسية التى يصدرها المجلس العسكرى إذا كانت لا تلبى طموحات الشعب، فى الوقت الذى نرحب فيه بأى قرار يستجيب لأشواق الناس فى تحقيق مجتمع ديمقراطى أكثر حرية وعدلاً ونظافة وجمالاً. ولعل الحبور الذى يعترى الناس من جراء تحويل رموز النظام السابق برئيسه المخلوع وأسرته إلى المحاكمة بتهم الفساد خير دليل على أن المجلس العسكرى يتفهم حاجات الجماهير فى معرفة الحقائق وكشف المستور.
من هنا أيضاً وجب أن نؤدى التحية إجلالاً للمجلس العسكرى الذى أقال الدكتور أحمد شفيق وحكومته "يقولون إنه قدم استقالته من باب حفظ الكرامة ليس إلا"، بعد أن تيقن أنها حكومة مرفوضة من الغالبية العظمى من الجماهير التى انطلقت فى ثورة مجيدة لإسقاط نظام مبارك، وليس مبارك فقط.
صحيح أن قرار المجلس العسكرى جاء بعد ضغط شعبى عارم (أكتب هذا الكلام فجر الجمعة 4/3/2011 وقبل المظاهرة المليونية المزمع تنظيمها اليوم احتفالاً بالنصر)، إلا أنه يؤكد أن قادة المجلس العسكرى ينصتون إلى نبض الملايين الذين يحلمون بمصر جديدة... مصر حرة وعفية.
اللافت للانتباه أن رئيس الوزراء الجديد الدكتور عصام شرف قرر بذكاء الانضمام إلى حشود المتظاهرين الجمعة الماضية فى إشارة واضحة إلى كونه يريد أن يستمد شرعيته من هذه الحشود التى تمثل غالبية الشعب المصرى بكافة طبقاته وأطيافه. كما أن الرجل له تاريخ مشرف آخرها انضمامه إلى الثوار وخروجه فى مظاهرات ميدان التحرير للمطالبة بتنحى مبارك.
حسناً... إن المسافة تضيق بين الثوار والمجلس العسكرى فى هيئته السياسية، بمعنى أن إقالة الدكتور شفيق وتكليف الدكتور عصام شرف برئاسة الوزارة كان استجابة لأحد مطالب الجماهير الأساسية، لكن مازال هناك العديد من المطالب المهمة التى ترفعها الجموع لم يتم تنفيذها حتى الآن، منها إنقاذ آلاف المصريين العالقين على الحدود الليبية التونسية فوراً، والإفراج فى الحال عن جميع المعتقلين السياسيين، وإلغاء حالة الطوارئ المفروضة من ثلاثين عاماً، وإعادة هيكلة وزارة الداخلية، حتى لا يظل يعمل بها ضباط من أصحاب الجلد الغليظ يتعالون على الناس ويهددونهم بالضرب (بالجزمة) مثلما فعل مدير أمن البحيرة مؤخراً الذى نقلوه ولم يقيلوه!
كما أن فريق المحافظين الموالين للنظام السابق مازال يقبض على السلطة فى المحافظات، الأمر الذى يخدش وجه الثورة الجميل. أما مآسى المجالس المحلية التى ينبغى حلها، فحدث عنها ولا حرج.
باختصار... وبغض النظر عن تلكؤ هنا وألاعيب هناك، فإن شلال الثورة يتدفق بقوة، وسيكتسح حتماً بقايا النظام الفاسد الذى نهبنا وخنقنا عقوداً طويلة، وما علينا سوى الحفاظ على شعلة الثورة متقدة، مع الحذر دوماً من خبث الذين خسروا نفوذهم الطاغى، وفقدوا مناصبهم المرموقة وجمدت أموالهم الحرام، لأنهم لن يستسلموا بسهولة، من أول الرئيس المخلوع وابنه الحالم بالعرش، حتى أصغر مدير فاسد فى مؤسسة خربة، ورجل أعمال مشبوه!
* ملحوظة ليبية:
أما وقد انتفض الشعب الليبى العظيم ضد طاغية من طراز عجيب، يرى نفسه نصف إله، وأكثر من نبى، فإن ذلك يؤكد أن لصبر الشعوب حدوداً، وأن الطغاة لا يتعلمون أبداً من قراءة التاريخ، حتى لو اعتقد هذا الطاغية المخبول أنه رمز العزة والمجد، وأنه هو الذى صنع ليبيا!
فقط... أرجوك لاحظ أن كل الليبيين الذين تتم استضافتهم فى الفضائيات ليعلقوا على الأحداث الجارية فى بلدهم يتمتعون بعقل راجح وجهاز نفسى سليم، فمن أين إذن جاء هذا القذافى؟ وكيف يزعم أنه لا يملك أى سلطة حتى يتنحى عنها، فى الوقت الذى لا يعرف فيه الناس خارج ليبيا أى رجل ليبى آخر سواه هو وابنه؟
نعم... لقد انطلق العصر الذهبى للشعوب العربية، وما أجمله من عصر!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة