لم أكن أتصور أنى سوف أعشق هذه المدينة البديعة كل هذا العشق قبل وصولى إليها بعد ثلاثة أيام من بداية الانتفاضة الليبية (لم تكن قد أصبحت ثورة) ومنذ اليوم الأول لوصولى بنغازى وجدت نفسى منضما لـ"المركز الإعلامى لثورة 17 فبراير"، واللجنة الإعلامية لثورة 17 فبراير (يصر الليبيون على إضافة 17 فبراير إلى اسم ثورتهم تفرقة عن اسم ثورة الفاتح للقذافى الذى ابتذل كلمة الثورة لمدة 42 عاما من حكمه) ولهذا المركز قصة طويلة تستحق أن تروى بعد ذلك، "بنغازي" تلك المدينة التى كانت يطلق عليها أهلها "مدينة الخوف" كما جاء فى قصيدة لأحد قادة الثورة الشباب:
ستقابله آلاف المرات/غدا/ بعد ألف عام/ ربما قابلته ألف مرة/ يتسربل بالأوهام/ جناحاه خيمتا ظلام/ فمه بركان/ يلفظ حمم الريّبة/ لهيب الخيمة/ قدماه رحى/ يداه الباطشتان عيون/ أصابعه عيون/ تعبث بفرائصك/ تتناسل فى ذهنك/ غيلان الخوف/ رأيته/ خذلته القداح/ تلفظه الملاذات/ تطارده الأشباح/ تتقاذفه المتاهات/ باعه الخصيان والأنصار/ براثن متربصة فى كل مكان/ يستصرخ شعبا شرده بعسفه/ لا يلقى غير خوار/ رأيته/ يتكور فى جحر دون قرار/ هوان فى عينيه/ يسلمه فرار لفرار/ رأيته/ رأيته/ رأيته/ مات خوفا.
هذه الأبيات من قصيدة "مدن الخوف" المنشورة فى ديوان كامل سنة 2009 عن دار نشر "الفضيل" فى ليبيا، وهى للمحامى عبد السلام المسمارى، وهو شاعر أيضا، ويكتب فى الصحافة الليبية، وكان المسمارى قد اشترك فى عدة احتجاجات على بعض قوانين القذافى قبل بداية التظاهرات فى 17 فبراير، التى تحولت بعد ذلك إلى ثورة شعبية عارمة شارك فيها "المسمارى" مع المحامى الشاب فتحى تربل والقاضى الشاب جمال بنور، وآخرين من المحامين والكتاب والصحفيين الليبيين، الذين عانوا سنينا طويلة فى سجون القذافى، والذين انضموا للثورة الشعبية منذ لحظاتها الأولى، حيث تكون بعد ذلك "ائتلاف ثورة 17 فبراير"، وكان عبد السلام المسمارى مسئول إدارة الأزمات التى أنيط بها إدارة الحياة اليومية للثورة وفى مدينة "بنغازى"، وبهذه الأبيات من قصيدة "مدن الخوف" سوف تظهر ما يمكن أن تكون عليه مدينة بنغازى حاليا، التى يمكن اعتبارها المركز الأساسى لثورة 17 فبراير فى ليبيا، والتى قضت قضاء مبرما ونهائيا على مصطلح "ثورة الفاتح" التى مثلت - للشعب الليبى على الأقل- اثنين وأربعين عاما من الطغيان والفساد ونهب ثروات الشعب الليبى، وسنوات من القهر وكبت الحريات والتصفية الجسدية للخصوم من جميع الأطياف السياسية، فإذا كان المسمارى يدير الأزمات اليومية فى بنغازى، فإن الدكتور محمد سالم المنفى يدير المركز الإعلامى لثورة 17 فبراير، الذى قام على أكتاف شباب "ثورة 17 فبراير" الذين اختاروا الدكتور "المنفى" عميد كلية الإعلام فى جامعة 'قار يونس'، وقد عرف عنه معارضته وكراهيته الشديدة للقذافى، وقد استطاع هؤلاء الشباب إصدار جريدة يومية (ليبيا 17 فبراير) كان من أبرز ما فيها الرسوم الكاريكاتورية التى كان يرسمها قيس الهلالى، وكانت رسومه الساخرة عن "القذافى" سببا فى اغتياله على يد أفراد "اللجان الثورية" التابعة للقذافى، فاستشهد قيس الهلالى فى الثلاثين من عمره برصاصة اخترقت رقبته وهرب القتلة، وقيس الهلالى على ما أذكر هو ثانى رسام كاريكاتير بعد الشهيد ناجى العلى الذى يقتل من أجل رسومه الكاريكاتورية المعادية للحكام الطغاة، وتقتله يد الخونة من أبناء وطنه وجلدته الذين باعوا أنفسهم وأرواحهم للحكام الفاسدين.
وقام الشباب بتأسيس وكالة أنباء ليبيا (و.أ.ل)، وقناة فضائية (ليبيا الحرة) وقد أسسها المهندس الشاب محمد نبوس، الذى لم يكن قد تجاوز سنته الثامنة والعشرين، وقد قام أعضاء اللجان الثورية التابعة للقذافى أيضا بتصفيته جسديا، فقنصه أحدهم بطلقتين فى رأسه، لكن مازالت جريدة "ليبيا 17 فبراير" تصدر، ومازالت فضائية "ليبيا الحرة" تبث برامجها ليس بعد استشهاد مؤسسها فقط ولكن بعد أن ألغى المسئولون فى قمر "النايلسات" ترددها، وقال الليبيون عنهم إن "القذافى" قد رشا بعضهم، فانتقلت للقمر "عربسات" وتحاول الآن العودة للنايلسات مرة أخرى.
"بنغازى" الآن تولد من رحم القتل والدمار، تخرج من سجن الطاغية إلى أفق الحرية، بنغازى التى تأسست قبل سنة 525 ق.م كمستعمرة إغريقية باسم 'يوسبيريديس'، كما لو كانت تولد من جديد، ففى يوم الخميس (17 مارس) كان هناك ما يقارب 700 ألف مواطن ليبى مهددون بالإبادة علنا، فى واحد من أكثر خطابات القذافى الأخيرة سخونة، وفى اليوم التالى (الجمعة 18 مارس) امتلأ ميدان التحرير (المحكمة سابقا) بعشرات الآلاف لتأدية صلاة الجمعة، فيما كانت جحافل كتائب القذافى فى طريقها باتجاه بنغازى لتحاصرها بالدبابات ومدفعية الميدان الثقيلة وصواريخ "جراد"، وكان "القذافى" قد توعد بمهاجمة "بنغازى" قبل صدور قرار مجلس الأمن رقم 1973 الذى يقضى بفرض الحظر الجوى، وأن قواته لن تظهر أى رحمة مع المتمردين، كانت خطة "القذافى" التى وضعها لاجتياح بنغازى، تقضى ـ كما جاء بعد ذلك فى اعترافات أعضاء اللجان الثورية الذين قبض عليهم الثوار بعد ذلك مختبئين فى مبنى جامعة "قار يونس" فى "بنغازى" بأن تحاصر قوات كتائب "القذافى" المدينة من الخارج وتهاجمها بالدبابات ومدفعية الميدان مدة معينة من الزمن، بعدها تنطلق مجموعات "اللجان الثورية" و"الأمن الداخلى" التابعة لنظام "القذافى" من داخل "بنغازى" وتهاجم الثوار (17 فبراير) من خلف ظهورهم، وبذلك يفتحون الطريق لقوات "كتائب القذافى" لتدخل فوق جثث أهل "بنغازى" وبيوتهم المهدمة، فى ذلك اليوم كان أغلب المصريين الموجودين فى المدينة، الذين لم يرحلوا باتجاه الحدود الليبية المصرية، متحصنين داخل الأحواش (البيوت) التى يعيشون فيها أو فى أماكن أعمالهم، وكنت موجوداً مع مدير تحرير جريدة 'ليبيا 17 فبراير'.
كنت أحاول إقناعه بالسفر إلى مدينة "أجدابيا" معه ومع الصديق عبد اللطيف الترهونى فى صحبة الكاتب الألمانى الشهير تود هوفر الذى كتب كتابه "لماذا تقتل يا زيد؟" عن الحرب فى العراق، لكن عبد اللطيف الترهونى أصر على أن يصحب هوفر وحده، فهو الذى أتى معه من ميدان التحرير فى القاهرة إلى بنغازى، وسوف يصحبه وحده فى سيارته، وسافرا إلى "اجدابيا"، وعاد الكاتب الألمانى وحده بعد أن انفجرت السيارة بعبد اللطيف الترهونى.
هذه بعض من زنقة "بنغازى" التى يطلقون عليها الآن "عروس ثورة 17 فبراير"، فماذا عن "زنقة" القذافى فى باب العزيزية؟
زنقة القذافى لافتة تحمل عنوان "حماية المدنيين"، وتحت هذه اللافتة يتم الآن ضرب قوات "القذافى" بطائرات وصواريخ التحالف الغربى، وفى ذروة "زنقة" بنغازى وحصارها التام بقوات "القذافى" تمهيدا لاجتياحها قال رئيس المجلس الوطنى الانتقالى مصطفى عبد الجليل، إن المجلس يرحب بأى عمل يهدف لحماية المدنيين، لكنه أكد أن حظر الطيران لا يكفى، وطالب بضرورة توجيه ضربات استباقية لكتائب القذافى، وبدأ الرعب يجتاح المراسلين الأجانب فغادر الجميع فنادق 'تيبستى' و'أوزو' و'الحديقة' إلى مدينة طبرق ومدينة "البيضا"، لدرجة أن "رولا" مراسلة قناة العربية كانت تصر على مغادرة الفندق فى المساء مع أن اللجان الثورية أو 'جواسيس القذافى' - كما يطلق عليهم الليبيون أنفسهم - لا ينشطون إلا مساء، حيث يطلقون النار من سياراتهم على الناس فى الشوارع من دون تمييز، وبدأت "زنقة" القذافى بقصف لقواته وامتد القصف لوكره الأخير فى "باب العزيزية"، وبدأت التحليلات السياسية تجتاح الفضائيات بالمحللين: منهم المؤيدون ـ وهم الغالبية ـ الذين يؤيدون تنفيذ التحالف لقرار مجلس الأمن رقم 1973 الذى يقضى بفرض منطقة حظر جوى فوق ليبيا، ومنهم الرافضون وهم أصحاب وجهة نظر تعارض التدخل الأجنبى، وهى وجهة نظر لا تدين أصحابها ولا تتهمهم بمعاداة الشعب الليبى بقدر ما تدعو للتحاور معهم، فتدخل التحالف فى العراق معروفة نتائجه للجميع من الدمار الشامل الذى لحق ببلد عربى يكن له كل العرب محبة كبيرة، كما أن التحالف لم يقدم للشعب الفلسطينى هذه الحماية فى مواجهة "إسرائيل" التى تقتل وتبيد الشعب الفلسطينى كل يوم وكل ساعة، ولم نسمع عن رقة قلب التحالف ورغبته فى حماية المدنيين الفلسطينيين، بل إنهم قاموا بحماية المعتدين القتلة ووجهوا اتهاماتهم للضحية، كل هذا صحيح ويجعل البعض يتساءل: "هل تحول التحالف فجأة فوق ليبيا من شيطان إلى ملاك؟".
يجيبك البعض فى بنغازى أن المسألة ليست شياطين أو ملائكة، بل هى المصالح، وبالتحديد المصالح النفطية، وسوف يوافقك الجميع فى بنغازى، وفى مقدمتهم أعضاء المجلس الوطنى الانتقالى، وسوف يقولون لك، نعم، التحالف يساعدنا من أجل تحقيق مصالحه وتحديدا فى النفط، وسوف يقولون لك إنهم يعرفون هذه الحقيقة، ويعرفون أيضا الحقيقة التى تقول لولا التحالف لتم هدم بنغازى عن بكرة أبيها ولتم ذبح الجميع، وسوف يقولون لك إن الليبيين لن يشربوا نفطهم، بل سوف يبيعونه بالأسعار العالمية لمن ساعدهم وأغاثهم من الذبح وهتك العرض على يد كتائب "القذافى"، اليوم مصالح التحالف فى الحصول على النفط تتلاقى مع مصالح ثوار 17 فبراير فى ليبيا، وهذه "زنقة" القذافى الحقيقية، فقد أدرك التحالف أن مصالحه فى نفط ليبيا سوف تكون مع الشعب الليبى، بعد التخلص من القذافى وإن لم تدرك روسيا هذه الحقيقة فسوف لن تحصل لنفسها على برميل نفط واحد، وعلى روسيا أن تدرك أن مصالحها النفطية لم تعد مع "القذافى"، فهو الآن فى الأيام الأخيرة من 'زنقته'، حتى ولو امتدت مدة "زنقة القذافى" إلى ستة أشهر كما أوحى التحالف بذلك.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة