حالة من الذهول والمشاعر المتضاربة أصابتنى كما أصابت غيرى ونحن نتابع أنباء حبس الرئيس السابق مبارك وأبنائه، وتفاصيل القبض عليهم والتحقيق معهم، وترحيل علاء وجمال إلى سجن طره ليلحقا بباقى أركان النظام السابق وحكومته، وحالة مبارك وزوجته وهما يستقبلان هذه الأحداث، وتفاصيل أيام السجن الأولى لأبناء الرئيس السابق، وترقب حالة مبارك الصحية حتى يلحق بهما وبباقى أركان نظامه.
ذهول وكأننى أرى معجزة من المعجزات، معجزة ما لها أنبياء، ترى فيها أشد لحظات الضعف بعد أن رأيت أقصى درجات القوة والنفوذ والسلطة، أراها كمعجزات حدثت لقوم ذكرهم القرآن، طغوا فى البلاد وأكثروا فيها الفساد، وظنوا وظن الناس أنه لا غالب لهم ولا نهاية، فأتتهم معجزات الله من حيث لا يحتسبون، فزال ملكهم وسلطانهم وقوتهم، "فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد"، هكذا أيضا أصاب العذاب والضعف قوم مبارك، ولا أعنى هنا أسرته فقط، ولكن كل حاشيته وأفراد نظامه تبدلت أحوالهم، وزال جبروتهم وسطوتهم، وأصبحوا بلا حول ولا قوة، لا يستطيعون أن يفروا من قدر الله وقدرته، لم ينفعهم مال ولا بنون ولا سلطان.
أراها آية ومعجزة لابد وأن يتوقف كل منا أمامها وألا نختزلها فى مشاعر التشفى ونشوة الانتقام والشماتة البغيضة، ولكن أن ننظر إلى قدرته سبحانه على كبح جماح الظالمين مهما بلغت قوتهم، وظنوا وظن الناس أن لن يقدر عليهم أحد، ولم يتعظوا بدول الظلم التى زالت قبلهم، لم يعوا أن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء دون أن يستطيع الظالم مهما بلغت قوته وظلمه أن يرد كيد الله وإرادته حين يحل عليه غضبه ويأتى يوم حسابه، لابد أن نعى هذا الدرس حتى لا نقع فيما وقع فيه مبارك حين غفل عن كل هذا، حتى حينما جاءته النصيحة التى لو أدركها ما كان وصل به الحال إلى هذه النهاية تلك النصيحة التى قالها له الإمام الجليل الشيخ الشعراوى وكأنه يحذره من هذه النهاية وهو فى أوج قوته وسطوته، حين عاد ناجيا من محاولة اغتياله فى أديس أبابا.
عدت لتلك الكلمة الرائعة التى قالها الشيخ الجليل وهو يقترب من الموت يحذر مبارك من عاقبة الظلم، ومن التمسك بالحكم والملك، قالها الشيخ الجليل بنور قلبه العامر بالإيمان فبدت وكأنه يتنبأ بما لم يره، بدأها الشيخ بقوله: "إنى يا سيادة الرئيس أقف على عتبة دنياى لأستقبل أجل الله، فلن أختم حياتى بنفاق ولن أبرز عنتريتى باجتراء، ولكن أقول كلمة موجزة للأمة كلها حكومة وحزبا ومعارضة وشعبا أسف أن يكون سلبى، أريد أن تعلموا أن الملك كله بيد الله يؤتيه من يشاء، فلا تآمر لأخذه، ولا كيد للوصول إليه، فإن الحق سبحانه حينما حكى حوار إبراهيم للنمرود قال له "ألم تر إلى الذى حاجَّ إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك"، فالملك يؤتيه الله لمن يشاء وينزعه ممن يشاء، فلا تآمر على الله لملك، ولا كيد على الله لحكم، لأنه لن يحكم أحد فى ملك الله إلا بمراد الله، فإن كان عادلا نفع بعدله، وإن كان جائرا ظالما بشّـع الظلم وقبحه فى نفوس كل الناس فيكرهون كل ظالم ولو لم يكن حاكما"، ليكمل الشيخ الشعراوى كلمته قائلا: "لذلك أقول للقوم جميعا إننا والحمد لله قد تأكد لنا صدق الله فى كلامه بما جاء من الأحداث، فكيف كنا نفسر قول الله "ويمكرون ويمكر الله"، وكيف نفسر "إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا"، فالله يريد أن يثبت قيوميته على خلقه، وأنا أنصح كل من يجول برأسه أن يكون حاكما أنصحه بألا يطلب الحكم، بل أن يكون مطلوبا إليه، فرسول الله قال: "من طلب – بضم الطاء - إلى شىء أعين عليه ومن طلب شيئا – بفتح الطاء – وُكل إليه"، ثم نظر الشيخ للرئيس ووضع يده على كتفه قائلا: "يا سيادة الرئيس آخر ما أحب أن أقوله لك ولعل هذا يكون آخر لقائى أنا بك: "إذا كنت قدرنا فليوفقك الله، وإن كنا قدرك فليعنك الله على أن تتحمل".
هكذا قال الشيخ الشعراوى كلماته التى استوحاها من نور القرآن، وكأنه ينبه مبارك ويحذره من أن يتمسك بالحكم ويتحايل على ألا يتركه، يذكره بقدرة الله وبإرادته التى لا يمكن أن تغيرها إرادة البشر والطامعين فى الملك والحكم والسلطان، ولكن مبارك لم يعى الدرس والحكمة والموعظة، لذلك لم يعد قدرنا ولم نعد قدره، لم يوفقه الله فى الحكم ليختم حياته كما بدأها وكما كان يتمنى، ولم يعنه الله على أن يتحمل المسئولية كما ينبغى، فكانت هذه هى النهاية التى لم يكن يتخيل أن يصل إليها.
علينا جميعا أن نعى الدرس ونفهمه وأن يدرك كل منا عاقبة الظلم والفساد ومعصية الله وإهدار حقوق العباد، نتذكر أن الملك والقوة والسلطان لله الواحد القهار، ولا يمكن لبشر أن يتحدى إرادته، فها هو ملك مبارك وعائلته ونظامه يزول وينتهى، وها هو الرجل الذى كان بالأمس لا حدود لسطوته وسلطانه وقوته وجبروته حبيسا هو وأبناؤه وكل أركان نظامه لا حول له ولا قوة، لا مكان له إلا على سرير بمستشفى أو على أرض السجن يذوق هو وأبناؤه وزوجته بعضا من عذاب ذاقه قبله ملايين المظلومين فى حكمه، اليوم لا مجال للشماتة والتشفى، ولكن للتأمل والفهم وإدراك الدرس والحكمة.. رحم الله الشيخ الجليل الذى أدرك بنور قلبه ما لم تره عينه.. واللهم لا شماتة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة