كيف تشعر حينما ترى واحداً من الذين كنت تحترمهم وتبجلهم لا يقدر ما تكنه له من محبة واحترام غير أن يمتلكك الإحساس بخيبة الأمل؟ هذا هو الدكتور يحيى الجمل، الذى ما إن مسه بريق السلطة حتى بدا كما لو كانت قد تغيرت جيناته الوراثية وتناثرت معتنقاته الفكرية، وذهبت هيبته إلى حيث لا يدرى الشيطان، كثيراً ما أتأمل وجهه حينما يبرز فى التليفزيونات وأقول: مين ده؟ أستغرب كيف يغير الإنسان جلده، ويحور لسانه، ويبدل ملامحه ويتهرب من أفكاره بهذه السهولة الفاضحة، غير أن الإجابة تأتينى واضحة جلية لا ريب فيها: إنه يحيى الجمل.
الدكتور الذى نسى القانون الذى كان يعلمه، وتناسى الثقافة التى كان أحد أعلامها، أصبح الآن عدو مجتمع ما بعد الثورة الأول، بما يمثله من احتقار للمخالفين واتهامهم بالخيانة مرة وبالجهل مرة، ويبدو أن من كان يعيب على مبارك بقاءه فى السلطة وهو فوق السبعين نسى أنه ابن ثلاثينيات القرن الماضى، بل وصل الأمر إلى تقمص روح "شجيع السيما" وصرح فى إحدى القنوات الفضائية بأنه "لا يقدر أحد على الإطاحة بالجمل" ناسيا أن مبارك نفسه كان يردد نفس التفاهات من نوعية "سأبقى إلى آخر نفس" و"سأظل" و"سأبقى" و"سأتابع"، وهذا يثبت أنه حينما كان يطالب النظام سابقا بالتغيير لم يكن صادقا فى مطالبه، وإنما كان يوسع لقدمه مكانا لينحشر فى أى مركب سلطوى كالعانس التى تتلهف على أى عريس حتى لو كان لصا.
الدكتور الذى كنا "ندلعه" ونهنهنه ونقدره؛ رمى بكل هذا على قارعة الطريق، بعد أن ركب على كرسى الوزارة السحرى، وإن كنا قديما نعيب على مفيد شهاب وعلى الدين هلال ومصطفى الفقى أنهم كانوا يسخرون علمهم لأربابهم من الفاسدين، فها هو الجمل يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن النظام لم يسقط بعد وأن معارضة مبارك كنظامه تماما بهما ما بهما من العيوب الخلقية التى تستعصى على أكبر الجراحين، ولا ينفع فيها تجميل ولا مساحيق.
ما إن أشار الفريق أحمد شفيق الشهير ببلوفره الكحلى إلى "الجمل" بأصبعه وملس على كرسى نائب رئيس الوزراء مغريا إياه بالجلوس عليه، حتى هرول الشيخ إلى الكرسى يجربه ويستمتع بالجلوس عليه، لا يفارقه إلا للحمام أو للأكل، ويبدو أنه يعانى من نفس أمراض العصر البائد من عدم الاستشعار، وضعف فى السمع ودغششة فى الرؤية، فالدكتور فهم وظيفته أيام أحمد شفيق بأنه سيكون "المحلل" بين النظامين الجديد والقديم، ولهذا توالت كوارثه التى أعتبرها أخلاقية قبل أن تكون سياسية، فحاول فى "الجمعة" التى كنا نعتزم فيها المطالبة برحيل شفيق أن يدعو المثقفين والفنانين للتظاهر فى ميدان التحرير تأييداً لشفيق، وكأن الجمل كان يريد أن يكرر "موقعة الجمل" بين المؤيدين والمعارضين لشفيق، وحتى بعد أن قطع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الطريق على هؤلاء وألئك، وأقال صاحب البلوفر والبلوفر، طلع الجمل علينا ليترحم عليه ويعدد محاسنه، حتى بعد أن تأكد من أنه كان غطاء لكوارث أمن الدولة التى سارعت بحرق جرائمها الحيوانية بعد أن فقدت غطاءها الكحلى.
ولأن ساعة الجمل "مأخرة" تماما كساعة مبارك استمر فى دور المحلل حتى بعد أن جاء الدكتور عصام شرف، وكأنه لم يسمع بمغادرة "شفيق" أو كأنه يريد أن يستعدى الناس على "شرف"، وافتتح جلسات الحوار الوطنى الشهيرة بـ "مصطبة الجمل" باقتراح عقد مصالحة مع رموز النظام السابق، وظهر وراءه محامى الشيطان السابق مفيد شهاب، وقد عقد العزم والنية على أن يوفق رأسين فى الحوار، متناسياً أن جرائم النظام السياسية أسفرت عن شهداء بالمئات، وجرحى بالآلاف، والأنكى أنه بعد أن فشلت "المصطبة" فى أن تجمع شمل النقيضين لم يعترف الجمل بأنه "لا تلاق"، وبرر فشله فى المصطبة بأن سبب تنحيه هو الإعداد لصياغة الدستور الجديد، ناسياً أنه كان من المسبحين بحمد دستور 71 الفاشى، وأنه يفتقد لأدنى درجات الحساسية العصرية، وأن اللافتات ارتفعت فى ميدان التحرير للمطالبة برحيله وإقصائه عن صناعة القرار السياسى، وأنه يخلط حتى الآن بين كونه كاتباً صحفياً ومصدراً مسئولاً، وأنه أصبح من الوجوه الكريهة لدى شباب الثورة، وأنه سيكون أول الخارجين من حكومة شرف وأول المعصوف بهم وأول المغضوب عليهم، وأن "مصر الجديدة" ستلفظه مثلما رمت مبارك على طريقة "تخلص من حمامك القديم".
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة