قراءة التاريخ مهمة، لكن لا أحد يتعلم من دروس التاريخ، وهو قول الفيلسوف هيجل الذى كان يرى أن التاريخ له فلسفة لكن ليس له دروس، والدليل أن الطغاة يتكررون ولو كان منهم من يستفيد ما تكرر ولا كرر الواحد منهم أخطاء غيره.
حسنى مبارك ربما يكون هو أول حاكم مصرى يزيل الشعب صوره واسمه من على المنشآت وهو ما يزال على قيد الحياة، حتى قبل ان تصدر المحكمة حكمها. أصدر الشعب حكمه. ليس لأن مبارك حكم طوال 30 عاما وهى أطوال مدة لحاكم مصرى بعد رمسيس الثانى الذى تقول الكتب إنه حكم 67 عاما. بدأها وهو فى العشرينات من عمره حتى العقد العاشر ومحمد على الذى حكم 35 عاما، لكن مبارك كان رئيسا يحتقر التاريخ، لذلك لم يصدق أنه يمكن أن يتعرض لما تعرض له غيره. وتصور أنه سيبقى أبد الدهر. وصدق أن منافقيه الذين يقترحون إطلاق اسمه على المنشآت والكبارى والمدارس ويعلقون صوره فى المصالح الحكومية، صدق أنهم يفعلون ذلك بصدق مع أنهم كاذبون.
رمسيس كان فرعونا مارس العادة الفرعونية، أزال اسم سابقيه ووضع اسمه على إنجازات غيره، لكن التاريخ غير الفراعنة، وغير هؤلاء الذين يصدرون أحكاما فورية بالخلود أو الإلغاء. وعلى الذين يريدون أن يشاهدوا المستقبل ان يقرأوا التاريخ. ومن المفارقات أن أول مكان أزيل منه اسم مبارك هو محطة تحمل اسمه فى مترو الأنفاق، وهى التى كان اسمها محطة رمسيس وتمثاله. بعد أن كانت باب الحديد، وأصبحت الشهداء.
ربما كنا فى حاجة إلى معرفة كيف بدأ مبارك حكمه، وكيف أنهاه أو انتهى به، كيف تحول من شخص بسيط يرفض إطلاق اسمه على المنشآت إلى حاكم يصر على الحكم والتمسك بالسلطة حتى وهو غير قادر عليها، ويريد اسمه وصوره فى كل مكان. لا يعلم أن الناس تطلق أسماء زعمائها وأبطالها فى قلوبها قبل أن تطلقها على الجدران.
مبارك الذى نما الفساد منه ومن حوله وتحول الى شبكات وعصابات. وكيف تحول الفساد إلى عقيدة. وسلوك طبيعى. وكيف انتقل فيروس الفساد من السلطة إلى المجتمع. بعضه فساد اضطرارى والبعض الآخر اختيارى. لكنه فساد نحتاج إلى أن نقاومه مثلما نقاوم فساد النظام السابق. وهو طريقة تفكير وليس مجرد زائدة نزيلها فنرتاح.
لقد حكم مبارك مدة تكفى تماما وتزيد لنحكم عليه، ونرى كيف نما الفساد على جلد نظامه كما تنمو الطحالب على جلد التمساح لتصبح جزءا منه. وطالت فترة حكمه لدرجة تصور أنه مخلد وأنه قادر على الإمساك بكل الخيوط، لقد استضعف الشعب، وتصور أنه ملكه، والشعب كبحر هادئ السطح، متلاطم الجوف.
مبارك صدق تقارير تقول له إنه زعيم محبوب، وإن الشعب يريد أن يرى صوره واسمه فى كل ركن، ولم يصدق من قالوا له إن الفساد يصعد الى رقبته ليخنقه.
وربما لا يريد أن يصدق حتى الآن أنه تم خلعه، وأن الشعب ضاق به وبحاشيته، وسنوات كانت الانتخابات تزور، والإنجازات تزيف، والبطالة تصل إلى خمسة ملايين، ومثلهم عمال تم تعطيلهم بالمعاش المبكر، وفلاحون أرهقهم المرض والفقر. عشرة ملايين فى العشوائيات، ومئات يمتلكون الأراضى والعقارات والمشروعات والاستثمارات بلا جهد. والمفارقة أن كبار الفاسدين لم يكونوا فى حاجة للمال أو الرشوة أو الأراضى، وربما نتهم فقيرا ارتشى ونجد له بعض العذر. لكن كيف نعذر من تغولوا وكانوا يواصلون التهام أرزاق الفقراء، ويستخسرون فيهم متر أرض أو شقة تأويهم. ومن يستبعدون من العمل والوظيفة بزعم أنهم غير لائقين اجتماعيا لمجرد أنهم أبناء فلاحين مكافحين فقراء.
كل هؤلاء سارعوا بإزالة اسم مبارك وصوره قبل أن يصدر حكم محكمة. ومعهم بعض من كانوا يرفعون الصور نفاقا أو خوفا أو تزلفا. لم يتخيل مبارك أن يعيش ليرى اسمه وصوره تنتزع، لأنه لم يقرأ التاريخ. هذا الجالس بصمت، يسجل ويفرز ويرتب. ويضع الأسماء أو يزيلها، و لا أحد يتعلم منه.