كنت صغيرا جدا حينما سألت معلم الدراسات الاجتماعية عن سر الاعوجاج الذى تمثله محافظتى دونا عن أخواتها فى نهر النيل، فقال لى المدرس: "لأن الأرض فى قنا يا ولدى صخرية.. صعبة.. خشنة.. فاضطر النيل يدور على حتة ينفد منها عشان يكمل طريقه على بحرى".. كانت نظريته مقبولة علميا، لكننى كنت أرتاح أكثر لنظريتى الخاصة بأن هذه "الثنية" تمثل انحناءة ظهر الرجل العجوز، بعد أن ثقل الحمل على ظهره، وكانت نظريتى تلك تستند فى مصداقيتها أننى كنت أرى ملامح "الهم "فى وجه كل رجل أقابله من قنا، تبدو أسرع مما تظهر أسارير الفرح، وسألت نفسى كثيرا: لماذا يصبرون على هذه الهموم؟.. ربما هى الطيبة واتساع الصدر الملازمين للشخصية المصرية وتزداد عند القناوية، ربما لأن الجنوبى كعادته يرفض الشكوى ويبتلع الحزن كترياق مر يمنحه فرصة الاستمتاع بلحظة فرح عابرة بنجاح الولد، أو زواج البنت، أو وفرة المحصول، أو قرعة الحج.
مازالت قنا وستظل سؤالا حائرا فى عقول أبنائها، فهم يحنون إليها دائما دون سبب عندما يبتعدون عنها، بينما لا يجدون فيها ما يستحق الحنين حينما يكونون بداخلها، بينما يراها الآخرون كائنا مجهولا وغامضا يتأرجح بين الطيبة و"تقفيل " الدماغ و العصبية، لكن والشهادة لله لم تكن يوما طائفية أو ظالمة أو تكره أبناءها، وظلت "أبية" واحتفظت بكبريائها فى وقت كان فيه المغتربون من أبنائها يكسبون شهرة، ويجنون أموالا من الهجوم على الحكومات المتعاقبة التى تجاهلت قنا، وجعلتها ملاذا للمنبوذين من الموظفين والمسئولين، حتى أولئك الذين صدعونا بغياب التنمية، وتفشى الجهل والفقر والمرض، لم يساهموا ولو بساعات من وقتهم الضائع فى المناظرات، لكى يخففوا من وطأة هذه الأمراض، ورضوا بأن يكونوا مثل المعددة فى الجنائز تبكى بلا حزن، وتنوح بلا جرح، بل وإن بعضهم يستمتع بأن يروى لأصدقائه ويفخر بلا مبرر له، كيف أن أهله فى قنا عصبيون.. طائفيون يغيرون المنكر بالدم والرصاص.
عليك أن تكون منصفا، وأن تحكم على أزمة قنا الأخيرة، ورفض بعض أهلها لمحافظ مسيحى، ومنصفا هنا تعنى أن تتخلى عن اللجوء للكذب، لمجرد أن تدغدغ مشاعر القناوية، وتظهر أنك مع مطالبهم، وتصعد المنبر لكى تصرخ بأن هؤلاء تعرضوا للظلم مرتين، وأنهم أولى بأن يختاوروا محافظهم، وأن الحكومة تستعلى عليهم، وكل هذا الهراء الذى لا يزيد سوى تعقيدا، فأنت تناقض نفسك حينما تجمع بين هذا الاستعلاء وبين الحفاظ على هيبة الدولة، عليك أيضا أن تترك تزويق الكلام بأن الأزمة ليست طائفية، حتى لا تجرح مشاعر المسيحيين فى مصر، وأن أقباط قنا يرفضون محافظ مسيحى، حتى تبرر لنفسك هذا التعاطف الخفى مع طائفية المطلب، أو أن يد الحكومة مهتزة مع قاطعى السكة الحديد، لكى تمتطى ثوب المعارض الصلب الذى يؤيد الاحتجاج ولكن يرفض الأسلوب.
أنا من قنا وأفتخر بهذا، بقدر ما افتخر بانتمائى لمصر العظيمة، لكن الحق هنا فوق كل انتماءات، والحق الذى أراه وأؤمن به أنه حتى ولو كانت الحكومة أخطأت مرة فى اختيار المحافظ، فإن أهلى فى قنا أخطأوا ثلاث مرات، الأولى عندما رفضوه لأنه مسيحى، بينما ما أعرفه عنهم أنهم لا يرضون بالظلم أو يأخذون بالشبهات، والثانية عندما ناموا على القضبان وقطعوا الطريق، وهم يهتفون "سلمية..سلمية"، ورفضوا كل محاولات التفاوض لإعادة حركة السير، الثالثة عندما سمحوا للبعض بأن يحرضهم ويملأ أدمغتهم بتخاريف عن تحويل بلدهم لكوتة أقباط، أو أولئك الذين راودوهم بتحويلها لإمارة إسلامية، ويكفينا مرارة التساؤلات عن سر الثورة الآن على محافظ قبطى، فى وقت رضينا به أيام النظام السابق، وهى تساؤلات تحمل من التلميح عن الثورة المضادة ما يمحو كل مبرر لعدالة المطالب، أم تريدون أن نكون فى نظر الناس كمن خرجوا لتوهم من كهوف "أمن الدولة" ليعيثوا فى الأرض فسادا وتخريبا.. يكفينا بالله عليكم، فأنتم أهل كرم ومحبة، ولا ترضون بالظلم، حتى ولو كان تحت راية لا إله إلا الله.. والله من وراء القصد..