انتهينا فى الفصل الأول بأن أعلن لى أسامة الشيخ موافقته على قبول منصب رئيس القنوات المتخصصة التى تشمل باقة قنوات لم نكن نعرف، كمشاهدين، إلا القليل عنها، مثل المنوعات والدراما والثقافية والرياضة والمعلومات, وتعجبت أن يوافق الرجل على أن يتحمل مسؤولية محطات شبه ميتة وهو صاحب التجربة الإعلامية الثرية، إضافة لأنه سيخسر راتبا كبيرا من عمله فى مؤسسة إعلامية كويتية. قَبِل الرجل المنصب وغاب عنى لبعض الوقت, إلى أن فوجئت به يتصل بى ويطلبنى للمقابلة على وجه السرعة فى مكتبه بماسبيرو، وكانت أول مرة أدخل فيها مبنى ماسبيرو. كنت ذكرت أن استوديوهات ماسبيرو كانت أماكن بائسة، أما المكاتب فكانت أكثر بؤسا.
فى طريقى لمكتب أسامة الشيخ بالدور السابع من مبنى ماسبيرو لم أشعر أننى فى صرح إعلامى تم إنشاؤه فى الستينيات من القرن الماضى, ولكنه بدا ديوانًا من دواوين الحكومة فاجأنى أسامة الشيخ بطلب فكرة وشكل لبرنامج يعُرض على قناة الدراما فى رمضان كفاصل بين المسلسلات. تصورت أنه يقصد رمضان العام القادم لأن رمضان كان بعد 6 أيام من لقائنا. أبديت له استحالة ذلك لقصر المدة وعدم استعدادى للدخول مع التليفزيون المصرى فى عمل, أصر وقال لى عبارة صارت موضع تندر لى فيما بعد وهى: علشان مصر.. لابد أن نقدم برنامجا يعيد المشاهد المصرى للتليفزيون بعد أن سرقته المحطات السعودية واللبنانية. كان الرجل جاداً لكنى جعلت كلمته نكتة أرددها كلما أعيتنى مصر. وأتساءل: أليس هناك من أحد يحب مصر غيرى؟!
استطاع أسامة الشيخ أن يحدد إقامتى فى التليفزيون منذ ذلك الحين من أجل المسلسلاتى، وجعلها قضية وطنية. كان الوقت المتاح ضيقاً ومعرفتى بالمكان والبشر معدومة، طلبت أن أشاهد شرائط للمذيعات المتاحات, واخترنا مجموعة على كل حال. واستجاب أسامة الشيخ لطلبى فى أن نحضر لهن ستايليست وكوافير من خارج المبنى، لأن مظهر المذيعة وخاصة فى برامج المنوعات مهم جداً، وأغلب مذيعات التليفزيون لدينا يفتقرن إلى حسن المظهر، إما بسبب فقر الحال، أو الذوق، أو عادة الاثنين معاً. وطبعا كان البدايات صعبة، فالفنانون المصريون خاصة النجوم فى خصام مع التليفزيون، والقنوات الأخرى تدفع لهم بالدولار لتستضيفهم خاصة فى رمضان, ولكنى تعلمت من أسامة الشيخ أن لكلمة علشان خاطر مصر مفعول السحر معى, وأيضاً مع فنانى مصر الذين لم يرفض أحدهم الدعوة للظهور على التليفزيون المصرى دون مقابل، إضافة لأن المذيعات اللاتى كن ممتنات للظهور فى برنامج جيد إلى حد ما وأصبح له مشاهدة، بعد أيام تصورن أنهن نجمات، وصار التقاتل والمشاكل بينهم على أشده, ورغم أنى امرأة إلا أنى أدرك جيداً أن أشرس خصومة هى خصومة النساء. فما بالكم لو كن مذيعات فى التليفزيون المصرى؟. ولكن المشكلة الأكبر تمثلت فى أن وجودى فى البرنامج صار يعنى انتقادا لبعض الفنانين حول أدوارهم الرمضانية فكنت أنقل بشكل يومى آراء الجمهور السلبية بعيداً عن مجاملات المذيعات وإن كان أغلبهم تقبلها، إلا نادية الجندى التى شكتنى لأنس الفقى الذى لم أكن التقيته من قبل وأسامة الشيخ، ورفضت الظهور فى البرنامج إلا فى حضور زميلة أخرى صحفية تضمن رقتها معها بدلا من انتقادها مثلما كنت أفعل.
«المسلسلاتى» وصحفيو التليفزيون
البرنامج استطاع أن يحصل على مشاهدة دفعت بقناة الدراما التى كانت مجهولة لدى المشاهدين وتنتج 45 برنامجا، إى والله، ولم يكن أحد يعرفها، استطاعت ببرنامج واحد مدتة 15 دقيقة وفكرة بسيطة أن تنقل القناة نقلة نوعية، فأصحاب القرار فى التليفزيون المصرى عادة ما ينظرون للشاشة على أنها بحاجة إلى تعبئة شرائط ووقت وليس فكر حتى على بساطته قد يجذب المشاهد، ولهذا لم تكن نادية الجندى والمذيعات ومشاكلهن العقيمة هن فقط المشكلة ولكنى اكتشفت أن هذا البرنامج خلق حالة هجوم من بعض الزملاء الصحفيين الذين يغطون أخبار التليفزيون ولم أكن أعرفهم بشكل شخصى, قال إيه.. علشان هذا البرنامج قطع عيشهم لأن بعضهم كانوا يُعد خمسة وعشرة برامج أحيانا على طريقة «عبى شريط ودمتم».. وكونهم ينقلون أخبار المبنى للصحف كان يسمح لهم باعتبارهم مراكز قوى, وللأسف كثير منهم له ثمن يتراوح من ساندويتش أو وجبة فى كافيتريا التاسع إلى برنامج أو أشياء أخرى!!! ونَجُمَ عن هذه العلاقة غير السوية نظرة فيها كثير من الكراهية وعدم الاحترام للصحافة والصحفيين داخل مبنى ماسبيرو وفى ذات الوقت يحتاجون لهم من أجل ضربات تحت الحزام بين الزملاء وبعضهم فى التليفزيون.
أخلاق الزحام تجتاح ماسبيرو
والغريب أننى اكتشفت منذ أن دخلت ذلك المبنى أن ما بين الاهتمام بما تنقله الصحافة عن أهل المبنى والتشاحن الذى يحصل على ماذا من درجة أو مرتب, لا يُبقى لأهل المكان مجهودا للحديث فى تجويد العمل أو إضافة الفكر. ولكى لا اتهم بالظلم أو التعميم لكل قاعدة استثناء، وفى ماسبيرو هناك استثناءات بالتأكيد، ولكنها تائهة بفعل أخلاق الزحام التى تجتاح المكان.. ففى مبنى قوامه أكثر من 40 ألف موظف ويمكن أن يديره ألف شخص، يصعب أن تتحدث عن جودة أو ابتكار. وفى بلد لم يتعلم أهله لغة العمل الجماعى حتى فى الإعلام يصعب أن تجد عملاً جيداً إلا بشق الأنفس، وعادة ما ينتهى بتقاتل القائمين عليه ليثبت كل منهم أنه صاحب النجاح منفرداً وينسى مشاركة آخرين له، وإن كان ذاك سمة غالبة فى مصر، فإنها السمة الوحيدة فى التليفزيون المصرى الذى يمثل كل سلبيات البلد والمرحلة.
وإضافة إلى أخلاق الزحام والفردية هناك أخلاق التدمير, فعادة كل برنامج يعمل فيه مئات دون داع إلا أكل العيش وهؤلاء يتفننون فى تعطيل العمل أى عمل إما لنقص فى الموهبة المطلوبة أو ليأس من التواجد.
انتهى شهر رمضان، وكان يجب أن ينتهى المسلسلاتى، طلب أسامة الشيخ منى الاستمرار ورفضت، لأن طبيعته تصلح لرمضان أو على الأكثر حلقة أسبوعية وليس يومية. كان الرد وماذا أفعل مع العاملين؟، لابد أن أجد لهم برنامجا يوميا لزيادة دخلهم!!! فأيقنت أن كثيراً من قرارات بعض المسؤولين داخل المبنى ترتبط باعتبارات كثيرة آخرها قيمة ما يقدم. اعتذرت ورغم ذلك استمر البرنامج من أجل العاملين. ومات على الشاشة وصار علامة لسوء السمعة بين البرامج على اختلاف معديه والمسؤولين عنه ولم يفكر أحد فى أن يدفن الجثة ويقول وحدوووه.. بقوا يأكلون «عيش» على الجثة التى كنت يوماً واحدة من شهود ميلادها. ومازال المسلسلاتى مستمراً حتى الآن والحاجة أكبر لاستمراره بعد الثورة ليس لدوره الرائع فى الوعى، ولكن لأن بعضاً من العاملين فيه وجوه تقف فى بهو المبنى ثائرة, فأتعجب ألا يرون عيبا فيما يفعلون على الشاشة وأن أولى بهم أن يثورا على ما يقدمون.. ولكن يبدو أن أسهل على بعض ثوار ماسبيرو الكلام عن فساد عام من معالجة فساد يخصهم والمسلسلاتى خير مثال.