فى أول الكلام عن رؤساء مصر الثلاثة وعلاقتهم بالأم، قلنا إن متابعة تفاصيل تلك العلاقة ستكتشف عن مدى صدق تلك الحكمة المصرية الأصيلة التى تقول بأن رضا الأم عن وليدها يكون سبباً فى رضا الرب وعبيده على الوليد نفسه، وتحدثنا كيف شكل فراق عبد الناصر لأمه مبكرا كاريزما العواطف التى اشتهر بها، وكيف أثر بعد السادات عن والدته وارتباطه بجدته صاحبة الشخصية القوية على نظرته للأمور، وفى السطور القادمة ستعرف لماذا فقد مبارك الكاريزما التى تقدمه للشعب، وكيف فقد تعاطف الناس معه منذ البداية وحتى النهاية.
لم يتحدث عنها أبدا، لم يذكرها، لا يوجد سطر واحد فى أى خطبة أو أى لقاء رسمى أو أى حديث ودى منقول للرئيس السابق محمد حسنى مبارك يتضمن كلمة واحدة عن السيدة والدته رحمها الله، حتى المعلومات المتاحة عن أصل ونشأة الرئيس السابق قليلة جدا، فلم نسمعه يوماً يفعل كما فعل السادات ويتحدث عن قريته ووالده وجده وأهله، ولا كما فعل عبد الناصر حينما كان يأتى بوالده عبد الناصر حسين، ويجلس ويحكى معه ومع أصدقائه عن أيام "بنى مر" وذكريات نشأة عبد الناصر التى قال بكل ثقة إنها كانت ذكريات فقيرة.
فى الرابع من مايو 1928 استقبل كفر مصيلحة الوليد محمد حسنى مبارك لوالد هو السيد السيد إبراهيم مبارك وعائلة تعود إلى سيدى مبارك صاحب الضريح المشهور بزاوية البحر فى محافظة البحيرة، والذى يؤمه الكثير من الناس للتبرك به، والده السيد مبارك كان يعمل موظفاً فى محكمة طنطا قبل إنشاء محكمة شبين الكوم، وتوفى فى نفس السنة التى أُحيل فيها إلى المعاش عام 1960 وللرئيس السابق أربعة إخوان ثلاثة ذكور وأنثى واحدة هم "سامية وسامى وفوزى وعصام"، والأخير هو الوحيد من العائلة الذى قام بزيارة علاء وجمال فى طره، حسب ما نُشر فى الصحف أمس.
وبعكس عبد الناصر الذى كان إذا تحدث عن أمه امتلأت عيناه بالدموع، لم يأتِ مبارك على ذكر والدته أبدا، وربما كانت الذكريات والتفاصيل القليلة التى وردت عن نِشأته يمكنها تفسير ذلك، ففى عدد مجلة "المصور" الذى نشر بتاريخ 16 أكتوبر 1981 يحكى أبناء قرية حسنى مبارك عنه، واصفين إياه بأنه كان شخصا جادا جدا وصارما، ويتمتع بإحساس عال بالخشونة، وربما كانت تلك المواصفات هى المفتاح الذى يمكننا أن نستكشف من خلاله علاقة الرئيس السابق بالسيدة والدته رحمة الله عليها.
العلاقة بين حسنى مبارك ووالدته السيدة نعيمة أحمد إبراهيم ربما لم تكن على نفس مستوى علاقة الرئيس عبد الناصر بأمه، ولكنها أيضا لم تكن مثل علاقة الرئيس أنور السادات بالسيدة والدته، ويبدو أيضا أنها لم تكن تشبه كثيرا تلك العلاقة الحميمية العاطفية التى تنشأ بين الطفل وأمه، وبالإضافة إلى صفات الجدية والخشونة التى وصف بها أهل كفر مصيلحة الرئيس السابق كانت هناك أشياء أخرى يمكنها أن تحدد طبيعة العلاقة بشكل أقرب، فكما ذكر
أهل كفر مصيلحة أن مبارك حينما التحق بالكلية الحربية انقطعت علاقته بكفر مصيلحة تماما، على الرغم من أن والديه كانا يقيمان فيها، ولم يذكر أن مبارك كان يهوى السفر إلى بلدته أو كان يداوم على ذلك، ومنذ انطلق ليدرس فى الكلية الحربية كانت زيارته لوالدته فى كفر مصيلحة تأتى بمقدار مرة كل ثلاثة أشهر أو أكثر، ولك أن تتخيل كيفية تلك العلاقة الموجودة بين الابن وأمه، وهى تقوم على زيارة كل ثلاثة شهور يمكنها أن تزيد، خاصة إذا أضفت تصريحات الرئيس السابق الشهيرة فى كل مناسبة، بأنه كان يعشق عمله تماما وكان يفنى حياته كلها فى أدائه.
العلاقة الجامدة يمكن توصيفها بهذا الشكل، فالرئيس السابق ليس بالشخص العاطفى، ولم يظهر عليه ذلك طوال فترة وجوده فى الحكم، فلم نشاهده على شاشة التفزيون وهو منفعل أبدا ولم نسمع صوته معبراً فى يوم ما عن ما يقوله فهو دائما ما يتكلم بنفس نبرة الصوت، سواء كان يتكلم عن حدث مفرح أو عن كارثة.
فى 22 نوفمبر 1978 فقد الرئيس السابق حسنى مبارك والدته، وكان وقتها نائبا للرئيس وتحت عنوان "الرئيس السادات يشترك فى تشييع جنازة والدة حسنى مبارك" نُشر خبر وفاة السيدة والدته رحمها الله، وفى نفس العدد من الأهرام، وبصفحة الوفيات، نشر نعى مطول جاء فيه "المرحومة حرم المرحوم السيد السيد مبارك والدة محمد حسنى مبارك نائب رئيس الجمهورية وأحمد سامى بألمانيا وفوزى بشركة طومسون وعصام الدين بالجامعة العربية وحرم المهندس السيد عزب إبراهيم مدير زراعة القليوبية وشقيقة كل من المرحوم محمد أحمد إبراهيم والمرحوم عبد الرحيم أحمد إبراهيم وأحمد حلمى إبراهيم وحرم المرحوم عبد الكريم عثمان والمرحوم وهبة رضوان وعمة وخالة كل من اللواء طبيب كمال عبد الكريم وأخوته وحمدى إبراهيم بالتربية والتعليم.." إلى آخر النعى الذى تضمن أسماء بقية العائلة، ويلاحظ أن معظمهم عاملون بالتربية والتعليم والجيش وهيئة الزراعة.. وينتهى النعى بجملة أخيرة تقول "وأقيمت ليلة المأتم أمس ولا عزاء للسيدات.. العزاء تلغرافيا بعابدين".
مع آخر كلمة فى النعى انتهت علاقة مبارك بالمرحومة السيدة والدته، وعلى الرغم من أن الرئيس السابق كان حريصاً على أن تتم تغطيته جميع أنشطته حتى البسيط منها فى الصحف الحكومية، وعلى الرغم من أن حملته الرئاسية فى 2005 حاولت أن تكون أمريكية، وتركز على الجوانب الإنسانية فى حياته.. إلا إننا لم نسمع يوما أو نقرأ أنه قام بزيارة قبر والدته أو أقام لها ذكرى سنوية، وهى أشياء يحرص المصريون بمختلف مستوياتهم على أدائها، خاصة إذا تعلق الأمر بالأم.
وحتى على المستوى العربى كان الكثير من الرؤساء حريصين على ذلك بشدة، فالرئيس السورى الراحل حافظ الأسد كان حريصا على إنشاء مسجد كبير باسم السيدة والدته "ناعسة"، ومثله الزعيم اللبنانى الراحل رفيق الحريرى الذى كان يحرص على زيارة سنوية لضريح والدته الحاجة هند حجازى، ومثله أيضا زعيم مجلس النواب اللبنانى نبيه برى الذى يحرص على إقامة احتفال فى ذكرى وفاة والدته على مدار أسبوع كامل يعرف باسم أسبوع فاطمة زين الدين.
حتى عندما ظهر الرئيس المخلوع فى البرنامج الشهير مع عماد الدين اديب تحدث الرئيس عن حياته الخاصة وعن زوجته، ولم يتحدث عن والدته، مع أننا اعتدنا فى مثل هذه الأحاديث أن يذكر المتحدث، ويؤكد على فضل الوالد والوالدة فيما وصل إليه، ولكنه لم يفعل ذلك فى حين فعله الرئيس الأمريكى الأشهر إبراهام لنكولن حينما قال فى خطاب شهير للشعب الأمريكى "إنى مدين بكل ما وصلت إليه وما أرجو أن أصل إليه من الرفعة إلى أمى الملاك".
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
سامح
غير موضوعى
عدد الردود 0
بواسطة:
ام مصرية
مقال كنا نجتاج اليه
عدد الردود 0
بواسطة:
اسماء
انا معك تماما