يقول المثل الشعبى "كتر خيرك يا شدة وريتينى العدو من الحبيب"، وينطبق هذا المثل "بحذافيره" على الواقع الآن فقط، إن استبدلنا كلمة ثورة بكلمة شدة ليصبح المثل هكذا "كتر خيرك يا ثورة وريتينى العدو من الحبيب، فالأصل فى الثورة أن الذين قاموا بها من "عيال" أحبوا بلدهم وهالهم ما رأوه من فساد انتشر فى البر والبحر، فأحبوا أن يقولوا "لا" وكانت الـ"لا" مدوية، عالية، صاخبة، مزلزلة.
صرختهم انطلقت لا تبتغى شيئاً إلا وجه الوطن، بينما اكتفى المنتفعون ببعض ما نالوه من فتات هذا الوجه، وظل المرابطون فى ميدان التحرير، يتأملون هذا الوجه ويرممونه مما لحق به تشققات، أصبح الميدان هو الضمير يئن إذا ما أصاب الوطن عطباً، ويزدهر كلما انتشى أو انبسط، أما حراس الميدان فظلت قلوبهم معلقة به حتى وإن تركوه، أجسادهم تكون خارجه أحيانا، لكن أرواحهم تتعلق بمداخله، تعلق المؤمنين بأستار الكعبة.
تشبه الشمس يا ميداننا، تشبه القمر والنجوم والسماء، حاولوا أن يلوثوك فما قدروا، حاولوا أن يبدلوك فأبيت، حاولوا أن يطمسوا معالمك فطمستهم وكشفتهم وانتزعت عنهم ثوب البراءة والوطنية والفداء، فسبحان من أعطاك من قدرته وزينك بزينته، وحماك من كل مكروه وشر.
لنا أن نتعجب من قدرة هذا الميدان الفريد على طرد كل ما هو زائف ومغرض، ولنا أن نرى فيه مصر التى فى خاطرنا، مصر التى استعدناها من أفواه مفترسيها وخائنيها الخائبين، مصر التى تعرف ما لا يعرفه المصريون، مصر الأبية العفية البهية الوضاءة المقدسة.
كل مرة يحاولون فيها أن يهزموا الميدان يرتد كيدهم إلى نحرهم، كل مرة يخيب سعيهم، وفور أن يدركوا قواهم الحقيقية يهرولون نحو الميدان ليسرقوا ما استطاعوا إليه سبيلا، كل مرة يصدرون نفس البيانات الخائبة، عن غموض الدعوة للمظاهرة وإيمانهم بأهمية الحوار لا الصدام، برغم أنه لم يقل أحد كلمة صدام، كل مرة يتحججون بحجج واهية ويستندون على بالى القول والفعل ويشاء الله أن يخذلهم ويفضح تخاذلهم.
سيقول قائل أكاد أسمع صوته: منكم لله خربتوا البلد، وسيدعى آخر أن المشارك فى مظاهرة الغد علمانى يسارى اشتراكى وحدوى ليبرالى وسيفترى كاذب: قلة مندسة وجماعة مخربة، وسينتظر آخرون متأهبين لاستشراف ملامح الغد، إن نجح سيدعون المشاركة، وإن فشل فسيكونون أول الشامتين، بينما سيتفرغ آخرون للفرجة مشجعى اللعبة الحلوة، صاحين فى أقرب فرصة "وجوووون" وبين هذا وذاك تعود الثورة إلى أصحابها الحقيقيين الذين أشعلوها منذ البداية وتعاهدوا أمام الله والوطن ألا يهدأوا إلا حينما تكتمل الثورة وتنعم مصر بهويتها الحقيقية وتعود إلى سكانها الأصليين.
نفس الحجج، التى كنا نتأفف منها قبل 25 يناير، نفس الخطاب المتعفن، نفس الأسانيد التى يدعون إنها شرعية والشرع منها برىء، نفس التفاهات المتكررة عن القلة المندسة والأيادى الأجنبية، نفس الاتهامات بالعمالة والخيانة والمروق، ولا أجد نفسى محتاجاً لأن أسمى سارقى الثورة بأسمائهم، فكلنا يعرف من هم، وإن كانت فجاجة السلفيين وانتهازية الإخوان واضحة وضوح الشمس، يضاف إليها خسة رجال الأعمال المتحكمين فى الرأى العام، والمتورطين فى قضايا الفساد ومحاولاتهم الدائمة لإخماد نور الثورة، فهناك الكثيريون الذين يتقنون مهنة التخفى فى الأوقات الفاصلة ثم القفز والهبش فى أقرب فرصة، وأحمد الله أن جمعيات سارقى الثورة امتنعت عن مظاهرة الغد لتتكشف عواراتها أمام الجميع، بعد أن ساهمت فى تشويه الثورة، ومحاولة اختطافها، مرة باستخدام الوضع الاقتصادى المتردى كفزاعة، ومرة بإشعال الفتن الطائفية، ومرة بالتهويل والمبالغة فى استخدام البلطجة والسكوت عليها لترهيب الشعب.
أنا مش حاسس بالتغيير وعشان كده نازل التحرير، لا تخوينا فى الجيش، ولا اصطداما معه، لكن لأن الشعب أراد إسقاط النظام، ومازال النظام يجاهد لكى يسقط، سأنزل إلى التحرير لأن السياسات لم تتغير، وعبيد النظام السابق مازالوا يجتهدون فى صنع أصنام يتقربون إليها؛ لإعادة إنتاج أسياد، سأنزل إلى التحرير لأن النظام لم يتغير، فقط أجرى عملية نيولوك، ومازل مأمور قسم شرطة طوخ ومن على شاكلته يعامل المصريين كما لو كانوا عبيداً، ولأن الأمن الوطنى يمشى على خطى أمن الدولة، ولأن الاعتقالات بالجملة، والمحاكمات أسد على الثوار، ونعامة على مبارك ومن معه، ولأن التليفزيون الحكومى مازال يلجأ إلى نفس سياساته المقيتة، ولأن سامى الشريف يمارس دور أنس الفقى ويستبعد أشخاصاً ويقرب أشخاصاً ويأمر بإذاعة برامج ويستبعد أخرى ويقطع البث عن برنامج الزميل محمود شرف لأن بثينة كامل لا تعجبه، ولأن فضائياتنا مازالت تلعب لعبتها القديمة وتدس السم فى العسل أو "مبارك فى الثورة" ولأن صحفنا الحكومية التى اجتهد صحفيوها لتطهيرها مازالت تدار بنفس العقلية القديمة، ولأن من زيفوا إرادتنا وزوروا انتخاباتنا مازالوا ينعمون الحرية التى مات فى سبيلها مئات الأبرياء، سأذهب إلى الميدان وأنا أعرف أن الخطر قائم مثلما كان قائماً قبل الخامس والعشرين من يناير.
ينادى الميدان فتتلمس الأذن النداء، تحتضنه، كعاشق مرهون أمام بيت الحبيبة، ما إن تتحرك ستائر شباكها حتى تنتفض روحه وتلتهب مشاعره، وتتسع عيناه للتمتع برؤيتها والنهل من سناها، لا يخاف الحبيب من أهل الحبيبة ولا يتراجع إذا ما تلقى تهديداً أو وعيداً، فنظرة من عين مصر بالدنيا وما فيها، وما كان للعاشق أن يضل بعدما اهتدى، وما كان للجدع أن يجبن بعدما انتصر على الجبان.