أعادت جمعة 27 مايو الأمور إلى نصابها الصحيح، ورجع ميدان التحرير إلى سكانه الأصليين، الذى يضعون مصر فى المقدمة، والمنفعة العامة أولاً، ولا يتاجرون بحلم الملايين، ويشترون بأحلام الناس مكاسب قليلة.
هم مكروا، فمكر الله، والله كما نعرف، "خير الماكرين" كانت أعينهم تتوثب على الميدان لترتشف مشهدًا يشمتون فيه، لكن ما إن نظروا حتى هالهم خذلانهم، وارتد البصر إليهم خاسئا وهو حسير، كانت أفواههم تستعد للخطب العصماء المزيفة عن أهميتهم وقدرتهم على حشد الجماهير، ولما لم يجدوا ما يسرهم، اخترعوا مشهدًا ليضلوا به عن مشيئة الله، فخاب سعى الكذابين.
ما توقعته حدث، وما أشرت إليه فى المقال السابق أشار إلى نفسه فى الميدان، قلت: كل مرة يحاولون فيها أن يهزموا الميدان يرتد كيدهم إلى نحرهم، وقلت: كل مرة يخيب سعيهم، وفور أن يدركوا قواهم الحقيقية يهرولون نحو الميدان ليسرقوا ما استطاعوا إليه سبيلا، وقلت، أحمد الله أن جمعيات سارقى الثورة امتنعت عن مظاهرة الغد لتتكشف عوراتها أمام الجميع، وما رميت به الغيب يوم الخميس، أصبح حقيقة بائنة أمام الجميع فى الجمعة الكريمة، جمعة الثورة والثوار، وليست جمعة التخوين والوقيعة والتكفير مثلما أرادوا لها.
كان التخوين مبالغًا فيه، ولم يدرك الإخوان ولا السلفيون أن هناك من المصريين الخالصين من لم يعد تحت وصايتهم، تناسوا أن للميدان منطقه، ورجاله، وحراسه، وتناسوا أن الثوار لا يعترفون بالبطريركية التى ينتهجونها، وتناسوا أن الخيبة كانت مأواهم، حينما أرادا أن يطفئوا نور الميدان ونار الثورة حينما عقدوا صفقتهم مع عمر سليمان وأرادوا أن يخلو الميدان فكان الخذلان أولى بهم، كنا نتوق إلى التلاقي، لكنهم فى كل مرة كانوا يسارعون إلى الاختلاف، مفضلين مآربهم، ماشين فى غيهم، حتى فقدوا مصداقيتهم وتزعزعت فيهم ثقة الواثقين.
اعتبر الإخوان أنفسهم كما قال لسانهم "صبحى صالح" أنهم الخير" بينما حسبوا أن الباقين أدنى، فكان الرد الإلهى أبهى وأروع وأبلغ من أية ردود أخرى، وكان الرد عليهم مثلما كان على من كانوا قبلهم "فى الميدان" فكان الهتاف الأشهر والأكبر فى التحرير هو "الإخوان فين .. التحرير أهوه" بينما هتف آخرون: ولا سلفية ولا إخوان .. الميدان مليان مليان، وتغنى أصحاب الثورة الأصليين "الجدع جدع والإخوان إخوان" بعدما كانوا يهتفون فى يناير "الجدع جدع والجبان جبان".
أطلق الإخوان على جمعة 27 مايو اسم جمعة الوقيعة بين الجيش والشعب، آملين فى أن يرهبوا الثوار ويستعدوا الجيش، ويزيدوا من حنق بقية المصريين على الميدان، لكن الله أبى أن يحدث ما خططوا له، وكان الهتاف الأثير لأصحاب الميدان هو "الجيش والشعب إيد واحدة" مسترجعين بذلك ذكريات جمعة الغضب فى يوم "تحريري" بامتياز.
تمامًا مثلما كان يفعل أنس الفقى حينما كان يسلط كاميراته على نهر النيل لإيهام الناس بأن الأمور هادئة ومصر بخير فى أيام الثورة الأولى فعل موقع الإخوان المسلمين الذى عرض صورًا لميدان التحرير صباحًا ليدعى كذبًا أن المليونية فاشلة، وتمامًا مثلما كان يطلق مبارك الشتائم والاتهامات على معارضيه أطلق رجال الجماعة بالاشتراك مع السلفيين كل ما استطاعوا أن يحشدوا من اتهامات وافتراءات على المستجيبين لدعوة مليونية الجمعة الماضية، وبنفس الوعى الذى تعامل به الثوار مع مبارك، تعاملوا مع اتهامات الإخوان بمزيد من الخبرة، ومزيد من المحبة أيضًا، إذ احتضنوا شباب الإخوان الذى شارك فى الثورة ووجهوا لهم التحية أكثر من مرة باعتبارهم مصريين أوفياء خلصاء، فكان رد الجماعة أعنف مما يتخيله المحللون والمنظرون، إذ أقصوا شبابهم عن تمثيلهم والانتماء إليهم، ضاربين بتقاليد الجماعة عرض الحائط ومضحين بحجتهم الأبدية التى كانت تستر خزيهم، باللجوء إلى التمحك فى شباب الإخوان كلما فاتهم المشاركة فى عمل وطنى.
انقلب السحر على الساحر، وتكشفت حيل الإخوان عند الجميع، وبطل مفعول المسكنات الموضعية التى كانوا يلجأون إليها كلما اشتكى منهم عضو، واختلفت موازين القوى من جديد، وعاد الميدان ضميرًا للأمة المصرية كلها، وكما أن التاريخ لن يغفر لهم تأجيج الصراع بين المصريين وقت الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والاعتماد على عدم معرفة البعض، ومغالطة الحقيقة، واستغلال الغيرة الدينية، فلن يغفر لهم التاريخ أيضًا أنهم يقولون ما لا يفعلون، وأنهم أول المهرولين إلى ساحات السلطان وأول المضروبين بسياطه.
أعادت جمعة الأمس البهاء إلى الميدان، وفشلت كل محاولات إفشالها، والأهم من هذا هو أنها أعادت ترتيب الخريطة السياسية من جديد، وظهرت قوة كل فصيل سياسى على حقيقتها بلا رتوش ولا تجميل، وعلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يعيد قراءة الخريطة السياسية من جديد، فها هو الشارع يعود إلى أصحابه، وها هم الثوار الحقيقيون يدخلون الميدان كما دخلوه أول مرة، وعلى جميع التيارات والفصائل أن تدرك أنه لا فائدة من التحدث باسم الشعب إن لم يحققوا له مطالبه، وعليها أن تدرك أيضا أن الناس عرفت الطريق إلى الحرية، وأنه لا مجال لعقد صفقات أو الاصطياد فى المياه العكرة، فقلب مصر مازال ينبض بأبنائها، وضميرها لم يغفل بعد، و"لسه الميدان صاحى" .. نقطة ومن أول السطر.