هل تذكرون مقالاً نشره الأهرام (فى العهد القديم) قال فيه كاتبُه كلامًا ظريفًا عن «تدليل» أقباط مصر (!) وأنهم يتمتعون بأكبر قدر من «الرفاهية» من بين أقليات العالم؟ طيب، إليكم ما يلى لنُعاين معًا هذا التدليل وتلك الرفاهية، كما يراها العالم من حولنا. ذاك أن العينَ البعيدة ترى على نحو أكثر حيادية، ودون حسابات، قد تعطّل عملية التبصّر النقىّ.
صحيفة «واشنطن تايمز» الأمريكية نقلت تقرير لجنة «الحريّات الدينية» السنوى الذى صدر الخميس الماضى بالكونجرس، ويتهم مصر باضطهاد المسيحيين والأقليات من مختلف الطوائف غير الإسلامية، وحتى الإسلامية غير السُّنية. واضعًا مصرَ العظيمة على القائمة السوداء للدول التى تُسىء للحريات بصورة روتينية، إلى جوار السعودية وإيران والسودان وآريتريا، تلك الدول التى تمارس «انتهاكات منهجية ومستمرة للحريات الدينية». وهو ما قد يؤدى إلى فرض عقوبات اقتصادية على مصر. وذكرت اللجنةُ أن تلك البلدان تضطهد الأقليات الدينية الرسمية ولا تلاحق المشتبه فيهم ممن تورطوا فى ارتكاب جرائم ذات دوافع دينية. وذكرت الصحيفةُ أن مصر، التى تتلقى نحو 1.5 مليار دولار سنويًّا كمساعدات من الولايات المتحدة، هى البلد الوحيد الذى انتقل من قائمة «المراقبة» إلى قائمة الدول التى «تثير قلقًا خاصًّا» فى تقرير هذا العام. ولاحظت اللجنة أن الهجمات على الأقليات الدينية، خاصة ضد المسيحيين الأرثوذكس «لايزال مرتفعًا»، حتى بعد الثورة التى أطاحت بالرئيس مبارك فى فبراير. وأن «فى مصر انتهاكاتٍ جسيمةً للحرية الدينية تشارك فيها الحكومة أو تتغاضى عنها. وتلك الانتهاكات تشمل العنف، بما فى ذلك القتل، وتتصاعد ضد المسيحيين والأقليات الدينية الأخرى». وأضافت: «أن الفشل المصرى فى محاكمة المتهمين استمر فى ظل الحكم العسكرى الذى حل محل حكم مبارك. وأن الحكومة المصرية لم تتحرك حتى الآن لمواجهة أحداث العنف الطائفى. فاحترام الحكومة المصرية للحريات الدينية لا يزال ضعيفًا وأن الأقليات الدينية مثل المسيحيين والبهائيين يواجِهون تمييزًا فرديًّا وجماعيًّا، خاصة فى الوظائف الحكومية وحرية بناء أو ترميم دور العبادة». كما ذكر التقرير أن السفيرة الأمريكية بالقاهرة، وعدد من أعضاء الكونجرس، عبروا للمسئولين المصريين عن قلقهم البالغ تجاه التعصب الدينى، وجلسات الصلح التى تمنع وصول الجناة للمحاكمة»، وطبعًا ظهر هذا التقرير قبل معرفة العالم بجريمة كرداسة البشعة التى راحت ضحيتها السيدة سلوى عادل التى قتلها أشقاؤها هى وطفلها لإشهارها إسلامها! وهى خسيسةٌ أخرى تضيف خطًّا أسودَ جديدًا لصفحتنا المصرية!
عاجبكوا كده!؟
وأشارت وزيرة الخارجية الأمريكية إلى أن: «الحرية الدينية حقٌّ أساسىّ من حقوق الإنسان وعنصرٌ أساسى فى أى مجتمع مستقر ومسالم ومزدهر». وأقول لها إن القرآن قالها فى سورة «الكهف»، قبل حقوق الإنسان: «وقُلِ الحقُّ من ربِّكم، مَن شاء فليؤمن، ومَن شاء فليكفر». لكن بعض الناس يعطون لأنفسهم حقًّا، لم يمنحهم اللهُ إياه، فيقومون بدور ظِلِّ الله على الأرض، صانعين من أنفسهم أوثانًا تُضحك علينا العالم، وتروّع الآمنين بأمر الله تعالى. أقصد أن أمانهم هو أمرُ الله، لكن ترويعهم بأمر الإنسان! هذا عجيب!
هل هذه هى روح الثورة التى خسرنا فيها مئاتٍ من أنجبِ شباب مصر؟ هل هذه هى مصرُ التى حلمنا بها، ومن أجلها ضحينا بدمائنا وعيوننا التى فقأتها رصاصاتُ القنّاصة؟ هل هذه مصرُ الحرّةُ المدنيةُ التى كتبنا من أجلها مئات المقالات والقصائد، ووقفنا فى سبيلها آلاف الوقفات الاحتجاجية لكى ننتزعها من بين أنياب الفاشيين الطغاة الذين استنزفوا خيرَها وجمالَها وتحضّرَها عقودًا إثر عقود؟ وهل هذه هى مصر الليبرالية التى لم تعرف الفرقة الإثنية عبر تاريخها القديم، وحتى الأمس القريب فى بدايات القرن الماضى (المتحضّر) الذى سمح بكل محبة وسعة صدر أن يكتب كاتبٌ مقالاً عنوانه «لماذا أنا ملحد»، فيرد عليه كاتبٌ آخر، بكل هدوء، بمقال عنوانه «لماذا أنا مؤمن» دون أن يُهرقَ أحدُهما دمَ الآخر، ودون أن يخرج علينا «شيخٌ» بفتوى تُبيح دمَ هذا أو ذاك؟ هل هذه هى مصرُ كاتبةُ أول كلمة فى كتاب التاريخ منذ خمسين قرنًا، لتعلّم البشريةَ العمارةَ والنحتَ والفَلك والطبَّ والتحنيط والشِّعر والموسيقى والفنَّ التشكيلى والحضارةَ والمدنية والاستنارة والتعليمَ والفلسفة والسياسةَ، وقبل كل هذا وذاك، تعلّمهم التوحيد، وقت كانت الأمم الأخرى ترفل فى الجهالة والهمجية وتحبو خطواتِها المتعثرةَ الأولى نحو الإنسانية والتحضر؟ هل هذه هى مصر 2011 التى أذهلتِ العالمَ بثورة شعبها العظيم، ورُقيّه وتحضّره فى فن صناعة الثورات؟ هل هذه هى مصر التى خرج مسلموها يوم 7 يناير الماضى ليصنعوا بأجسادهم حائطًا بشريًّا نبيلاً يحمى كنائس إخوتهم المسيحيين وهم يصلّون صلاة الميلاد؟ والتى صنع المسيحيون، فى جُمَع الثورة المتوالية، من أجسادهم سياجًا بشريًّا منيعًا يحيط بالمسلمين ويحميهم من غدر القنّاصة وهم يؤدون صلاة الجمعة فى ميدان التحرير وميادين مصر الأخرى؟
فى مقال قادم سأهدى بعض القصص من الحياة لمن يعاتبوننى على مناصرة الأقباط، التى هى قضية وطن لا قضية فئة، زاعمين أنهم «مدللون» فى مصر، يا لها من كلمة! كأنما العيونُ لا ترى والآذانُ لا تسمع، والقلوبُ لا تخفق، والأرواحُ لا تشعر بالذنب! ثم ندّعى التديّنَ والورعَ ومحبة الله ومخافته! ولست أدرى بأى وجه سنقابل اللهَ يومَ الدينونة! يومَ السؤال الصعب: هل شاهدتَ ظلمًا يقع على إنسان، ولم تسعَ لرفعه؟
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة