أهم ما لاحظته فى ثورة الغضب الثانية، وضوح وتنامى الحس الاجتماعى، كالمطالبة بحد أدنى وأقصى للأجور، بجانب مطلب التطهير السياسى، وأسوأ ما فى الموضوع لغة التخوين بين من شاركوا ومن لم يشاركوا.
قال لى سائق التاكسى الذى أقلنى للتحرير، إنه اضطر منذ أيام إلى دفع أضعاف ما كان يدفعه قبل الثورة من رشاوى وإكراميات لاستخراج رخصة للتاكسى، قالها بطريقة الناقم على ثورة 25 يناير التى شارك فيها بنفسه، فدخلت معه فى حوار دفاعاً عن الثورة، وأنهيته بقصة جارنا الذى تم خطف ابنتيه فى السابعة مساءً من جانب المنزل، وأعادها أهلها بأنفسهم بعد أن أخذوا يترجون الشرطة بضعة أيام.. جمع الأهل التحريات، وطاردوا المجرمين وانتزعوا الفتاتين، وأمام المنزل أطلقوا الأعيرة النارية، تأكيداً على أنهم لن يكونوا "ملطشة"، كل ذلك دون أن تحرك الشرطة ساكناً، لأن هناك رجال شرطة لا يريدون القيام بعملهم إلا وهم أسياد البلد، ولم تستطع الحكومة أن تقوم بواجبها فى إعادة الفتاتين لأبيهن، بينما استطاعت وبحسم حماية السفارة الإسرائيلية، بتكلفة حقوقية فادحة، أسهب الشباب الذين قبض عليهم من أمام السفارة، فى شرح المعاملة غير الإنسانية والضرب والإهانة والإذلال على يد الشرطة فى ليلة القبض عليهم.
ولا أستطيع التعبير عن الأحاسيس القاسية التى تملكتنى عندما قرأت منذ أيام خبر انتحار رجل لعدم قدرته الإنفاق على أسرته، وبعدها بأيام موظف فى مستشفى طوارئ المنصورة يشعل النار فى نفسه، وتذكرت عندما كنت أقرأ مثل هذه الأخبار قبل الثورة، وكتبت وقتها مقالاًً فى موقع "البديل" بعنوان"تعالوا إلى كلمة سواء يوم 25 يناير"، أدعو فيه المنتحرين ومن يحرقون أنفسهم، أن يكفوا عن ذلك ويخرجوا معنا فى يوم احتجاجى، كان أقصى طموحى أن يكون أقوى قليلاً من يوم 6 أبريل 2008، وإذا بالاحتجاج يتحول إلى ثورة، ثم وبعد الثورة بشهور، أعود لأصطدم بنفس أنماط الانتحار والاحتجاج السلبى.
الإحساس نعمة، وعندما فقد مبارك وحاشيته هذه النعمة زال حكمهم بثورة شعبية، أهم ما فيها، أنها أيقظت أحاسيسنا، وجعلتنا جميعاً نفتدى بعضنا البعض فى ميدان التحرير، وبعد تنحى مبارك وتولى د.عصام شرف رئاسة الوزراء، رأيت أنه من البديهى وفقاً لروح ميدان التحرير الفدائية، وفى ظل الظروف الاقتصادية التى جعلت الكثير من الفقراء والعمال جزءاً مهماً من المتظاهرين فى كل ميادين مصر أثناء الثورة، أن يفكر فى خطة اقتصادية استثنائية طموحة، تعتمد على إسهامات أصحاب المليارات، لانتشال ملايين المصريين من الفقر والبطالة.
وظننت، وبعض الظن إثم، أن أموال الأغنياء ليست أغلى من دماء الشهداء، وإذا كان هناك من دفع روحه فى سبيل الوطن، فسوف نجد من يدفع المليارات فى سبيل الوطن أيضاً، وتصورت أنه يمكن إنشاء سلسلة من المشروعات الزراعية والصناعية، تنتج المواد التى تحتاج إليها البلاد، ويعمل فيها أعداد كبيرة من العاطلين، بدلاً من أن يتظاهروا ويحتجوا ونحاول نحن إقناعهم بأن يهدأوا، لتكون بداية لنهضة غير مسبوقة.
كنت أنظر إلى تصوراتى على أنها ساذجة، وانتظرت من وزارة شرف أن تقدم أفكاراً ومشروعات وخطط أكثر طموحاً وأقل سذاجة ليقدم الأغنياء ضريبة المال للوطن، كما قدم الفقراء ضريبة الدم، لكن شرف لم يفكر فى هذا، وتستمر حكومته ومعها رجال الأعمال فى تحذيرنا من الوضع الاقتصادى والأمنى المتردى، رغم أن الفقراء"المطالبون بحقوقهم"، هم المتضررون بهذه الأوضاع، ولا يحتاجون لتحذير، وإنما لحلول، لا تقدمها حكومة شرف.
واهتم الكثير من الاقتصاديين بتفنيد مزاعم الحكومة عن الانهيار الاقتصادى، ونجحوا فى إقناع الكثير منا بأن الأمر ليس كما تدعيه الحكومة، وذلك عبر جدال طويل تناولوا خلاله الكثير من الأرقام، لكن كثيراً منهم فى رأيى وقعوا فى فخ الأرقام هم والحكومة، وما أود الإشارة إليه دون الإيغال فى الأرقام، أن أزمة بلادنا الاقتصادية أزمة هيكلية مزمنة، ترتبط بنظام عالمى مأزوم، فما زالت الاحتجاجات تشتعل من آن لآخر فى البلدان الأوربية، احتجاجاً على سياسات التقشف وغيرها من السياسات التى تطبق على حساب الفقراء، هذه السياسات طبقت فى بلادنا بشكل بالغ السوء مصحوبة بفساد وصل إلى نخاع النظام، ما دفع الفقراء كما رأيتهم فى المطرية يوم 28يناير، لأن يكونوا جزءاً أساسياً من الثورة، ولم تقتصر الثورة على المطالب السياسية، وإنما رفعت شعار" تغيير حرية عدالة اجتماعية"، فهل يعمل شرف وحكومته على تنفيذ مبادئ الثورة حقاً.
يقودنا هذا السؤال إلى مناقشة مفهوم الفترة الانتقالية، والتى أرى لها جانبين، جانب اقتصادى، بمعنى التخفيف من وطأة الفقر الذى نشره نظام مبارك، واستفادت منه طبقات بعينها، لذلك كان يجب الاستعانة بالأموال المتراكمة فى يد هذه الطبقات لسد الحاجات الأساسية للشرائح الأشد فقراً، والتى تبيع أصواتها فى الانتخابات مقابل ما يكفى ثمن أرخص أنواع الطعام لبضعة أيام، لكى نسد باباً عظيماً من أبواب الفساد السياسى، والجانب الآخر أمنى وسياسى، بالقضاء على البلطجة وإعادة الأمن للبلاد، مع فتح حوار واسع حول كل القضايا الأساسية وغير الأساسية، لتكون فترة انتقالية حقيقية، يستعيد خلالها الشعب حيويته، ويتطهر من الأفكار الطائفية وغيرها من الأوهام التى اكتسبها فى ظل نظام فاسد من جميع الجوانب بما فيها الجوانب الثقافية والإعلامية، لنبدأ فترة جديدة بوعى جديد تظلله الروح الإنسانية التى سادت فى التحرير.
لكن كل هذا لم يحدث، وأصبح المشهد فى الفترة الانتقالية كالتالى: بمجرد تنحى مبارك عاد كل منا إلى موقعه السابق على حالة "التحرير"، عاد الفقراء إلى الحرمان، فوقفوا مندهشين مطالبين بحقوقهم، وعاد الأغنياء إلى مواقعهم، قابضين بأيديهم على ما اكتسبوه من أموال فى عهد مبارك، غير مفرطين فى مليم فما بالك بالمليارات، لا يستطيعون إدراك أزمة رب أسرة براتب 500 أو 600 أو حتى ألف جنيه، فى ظل قوانين الإيجار المؤقت وارتفاع أسعار يستفيد منه التجار ورجال الأعمال، أما العاطلين الذين لا يتلقون أجراً، فلهم المحاكمات إذا أخطأوا وهم يبحثون عن بعض المال، فلينتحروا أو يشعلوا النار فى أنفسهم، المهم ألا يحتجوا..!
انتبهوا يا ناس، المشكلة أعقد مما تتصورون، فلا أحد يستطيع أن يتكهن بموقف الأغلبية التى لم تشارك فى الاستفتاء الأخير، الذى لا أعترض عليه ولا على نتيجته، فأنا وكل مصرى ملتزم به، لكن التفتوا قليلاً للأصوات التى تحذر من ثورة جياع قادمة لا تبقى ولا تذر، ولا تؤمن بثورة يناير ولا أى فكر أو تيار، وتكون مظاهرات التحرير واعتصامات الفئويين بالنسبة لها "لعب عيال"، والخوف من أن يتحول الأمر إلى كارثة كما فى ليبيا أو الصومال أو أياً من المسارات المرعبة، وتذكروا أن الإحساس نعمة، وأن نظام مبارك انهار فى أيام، لأنه فقد هذه النعمة.
ولا أنسى فى هذا المقام أن أحاول شد الانتباه لتصريح د.عمرو سلامة وزير التعليم العالى، الذى أكد على تشكيل لجنة لحصر جميع المكافآت التى تحصل عليها القيادات فى الجامعات والوزارة، مع وضع قواعد واضحة للحد الأدنى والأقصى لهذه المكافآت، وأنه يسعى لإلغاء المكافآت التى تصل إلى الملايين لبعض القيادات الجامعية سنويا، وأدعو كل وزراء الحكومة للسير فى ذات الاتجاه لأن فيه مصلحة الوطن، وأدعو الحكومة إلى تنفيذ وعودها بوضع حد أدنى للأجور، بحيث يكفى إيجار شقة وإطعام أسرة مكونة من ثلاثة أبناء والزوج والزوجة، ولا يجب أن تنسى الحكومة فى الحد الأدنى مصروفات الملابس حتى لا يمشى الناس عرايا، ومصروفات التعليم لأن الحكومة تقول أن الأمم لا تنهض إلا بالتعليم. كما أدعو الحكومة والقراء إلى النقاش حول أفكار وخطط اقتصادية تنبع من الضمير الذى استيقظ بداخلنا فى ميدان التحرير.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة