أعرف أنه لا يمتلك عصا سحرية يحول بها الجهل إلى معرفة، وأعرف أن التركة ثقيلة وأن مخزون الفساد الضارب فى وزارة الثقافة مثله مثل كل مؤسسات الدولة، يحتاج إلى سنين طوال وخطط طموحة وعزيمة قوية ليميز الخبيث من الطيب، وأعرف أيضا أنه ممن يمكن القول، إنهم "حكومة الثورة" التى جاءت على أكتاف المصريين وتلقت شرعيتها من ميدان التحرير فى وقت التف الشعب كله حول هذا الميدان، وأنه تعهد مثل غيره من وزراء شرف بأنه سيحقق مطالب الثورة، ويعلى من قيمة الشفافية فى قراراته والديمقراطية فى ممارساته، والشفافية فى حساباته واختياراته، وإن كان من حقنا أن ننتقد ممارسات المسئولين المصريين فى حكم مبارك، فأرى أنه من العبث أن نتنازل عن هذا الحق فى انتقاد قرارات وزراء حكومة الثورة، وتقييم تصرفاتها وقراراتها، خاصة مع وجود الكثير من علامات الاستفهام حول قرارات وزير الثقافة عماد أبو غازى، الذى قاد المثقفون الثوريون من أجل تعيينه وزيرا معركة ضارية، ومثل اختياره للوزارة انتصارا للثورة والثوريين.
بعد أسابيع قليلة من اختيار أبو غازى وزيرا للثقافة بدأ الحماس يفتر، وبدأت الأصوات المعارضة لتعيينه تظهر، بعد أن كانت حبيسة الجلسات الخاصة، ومادة ثرية للنميمة، دعم هذه الأصوات بعض التصرفات غير المحسوبة من أبو غازى ، وبدا من كان يقول إنه سيختار قيادات الوزارة بالانتخاب إنه يضحك على جموع المثقفين، كما أنه لم يفعل "أى شىء" من شأنه التصدى لحملات تشويه الثورة، وتخريب المجتمع المصرى، وبدا صوته خافتا أو قل منعدما تجاه الأحداث الطائفية التى عاشتها مصر والتى كادت أن تعصف بدولة الثورة، وتعيدنا إلى دولة مبارك، فلم ينبس أبو غازى ببنت شفة فى أحداث صول أو أبو قرقاص أو اعتصامات الأقباط أو تظاهرات السلفيين، وكان بعيدا عن المشهد كما لو أن الأمر برمته لا يخصه، أو كما لو كانت هذه المشاكل المتتالية ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بالشأن الثقافى العام، وشيوع ثقافة التطرف على حساب انسحاب ثقافة الحوار وقبول الآخر، واشتباك الثقافات، ولولا رفض جموع المصريين لحالة الانقسام الطائفى والتعصب الأعمى، لكان الوضع أكثر تأججا والتهابا، أى أن الشعب المصرى بنفسه ولنفسه استخرج من مخزون السماحة والمحبة، الذى تشكل بداخله عبر آلاف السنين لطفئ نيران الفتنة، دون أن تبذل وزارة الثقافة أى مجهود فى أن تدعم هذا "المخزون"، ودون أن تقوم بدورها فى الحفاظ على التركيبة الثقافية للشعب المصرى، وحمايتها من غزو الثقافات الأخرى، وإن لم تتصدَ الثقافة والإعلام لمثل هذه التصرفات الطائشة، فمن ممكن أن يتصدى؟
مثلما استهلك الشعب المصرى مخزون سماحته ليخرج به من المشكلات التى لحقت به، يستهلك عماد أبو غازى مخزون محبة المثقفين إليه ليخرج من المشكلات التى يتعرض لها دوما، إذ يتمتع أبو غازى بالكثير من المصداقية عن العديد من التيارات الثقافية، كما يتحصن دائما من انتقاد الآخرين له بنظافة يده ونزاهته، لكن يعاب على أبو غازى عدم انحيازه للأفكار الإبداعية الشجاعة، وميله الدائم إلى البيروقراطية الروتينية، كما أنه ومنذ الأسابيع الأولى لتوليه الوزارة بدت يداه مرتعشة فى اتخاذ القرارات، عازفا عن خوض المعارك الفكرية التى تدعم موقف الثقافة التنويرى، فقال فى بداية توليه إنه سيسعى إلى تخفيف وطأة الرقابة على الإبداع الفنى والأدبى، سرعان ما ذهب هذا التصريح الشجاع مع الريح، تحت ضغط الجماعات المحافظة، ومثل هذا التصرف انسحاب للثقافة من أحد أهم أدوارها، وهو التحفيز على الإبداع والدفاع عنه، وتأييد مطالبه الفنية.
كما جاء تصريح السيد محمد على رئيس البيت الفنى للمسرح الذى اختاره أبو غازى بأنه ضد إلغاء الرقابة على المسرح متماشيا مع سياسة "الارتعاش" التى تبناها أبو غازى فى وزارته.
لم تستثمر الوزارة على يد أبو غازى حالة التعطش إلى المعرفة، والسعى وراء المعلومة التى تفشت بعد الثورة، وكان من المنتظر من أبو غازى ووزارته أن ينتهز هذه الفرصة الذهبية لتصبح الثقافة رأس خربة التغيير الذى نريده، ومن العجيب الغريب المريب ألا يلاحظ أبو غازى تلك الحالة الرائعة من التعطش للعلم والمعرفة، ولم يلحظ كذلك أن المفكرين والمثقفين أصبحوا الآن "نجوم شباك" تتهافت عليهم الفضائيات ويأتى إليهم المهتمين من كل فج عميق، ولم يلاحظ كذلك أن جماهير الشباب على أتم استعداد الآن لأن تشد الرحال إلى الثقافة، وهو ما ينسف أسطورة أن الشعب المصرى لا يحب الثقافة.
ولا أعرف كيف لم يلحظ أبو غازى أو معاونوه مثلا أن مبيعات الصحف تضاعفت ثلاثة أضعاف، وأن مبيعات المكتبات وندواتها فى غاية الازدهار، وإن كنا ندعى سابقا إن الدولة لا تريد للثقافة أن تنتشر وتساهم بقدر كبير فى تجهيل الناس، فها هى الثورة قامت، وها هى دولة مبارك زالت، فمتى تستيقظ الوزارة من سبات العهد البائد؟
سأستقيل من الوزارة فور انتهاء الفترة الانتقالية فيجب أن يتسلم الوزارة وقطاعاتها ومؤسساتها "شباب" يشكلون مستقبلهم كما يريدون، هذا ما قاله أبو غازى فى أول اجتماع له مع المثقفين بأتيلييه القاهرة، وسط ترحيب وتصفيق الجميع، لكن من ينظر إلى قرارات أبو غازى اللاحقة يتأكد من أن هذا التصريح لم يكن "منضبطا"، فاختار أبو غازى الكاتب الكبير جمال الغيطانى ليحل مديرا على مكتبة القاهرة، ومع احترامنا وتقديرنا للغيطانى، واعترافنا بمكانته الأدبية الرفيعة، فقد مثل اختياره لرئاسة هذه المؤسسة بما يتناقض كلية مع تصريح أبو غازى الذى ظن المثقفون، أنه سيكون نهج الوزارة المتبع، خاصة أن هذه المكتبات التى تعد منابر للإشعاع الإبداعى تطلب فى هذه المرحلة لغة جديدة وتركيبة إبداعية متطورة قادرة على جذب شرائح عمرية وثقافية متنوعة، لاحتوائها ثقافيا وتربيتها إبداعيا، وإن كان من العبث أن نتخلى عن خبرات وقدرات كبيرة يتمتع بها مبدعونا الكبار، فمن العبث أيضا أن يظل متصدرو المشهد السابق هم متصدرو المشهد الحالى، لنظل محلك سر.
"انتبه من فضلك الوزارة ترجع إلى الخلف"، هذا ما قد يبدو التعبير الأمثل لحالة الوزارة الآن، نظرة سريعة على قرارات أبو غازى المهمة ستؤكد مشروعية هذا التعبير، فقد فاجأ أبو غازى الجميع باختياره للسيد محمد على رئيسا للبيت الفنى للمسرح، وسط تذمر وتعجب الكثير من المسرحيين، وتهامس البعض بأن علاقة الوزير الشخصية بـ"على" هى التى أتت به على رأس هذه المنطومة الثقافية الخطيرة، فقد عرف الوسط الفنى "على" بأنه ممثل غير مشهور، ومن أشهر الأعمال المسرحية التى شارك فيها "ملاهة الحجاج"، و"المحابظاتيه"، و"فلاش فرقعلوز"، و"جمهورية زفتى"، "لحظة وداع الخلابيط"، وذكر أسماء هذه الأعمال فقط قادر على أن يظهر مدى شهرة هذا "على" أو مكانته داخل الوسط المسرحى، هذا كله فى جانب، وجانب صداقته بأبو غازى التى لم ينكرها الاثنان شأن آخر تماما، ولهذا بدأ التهامس والغمز واللمز فى الازدياد بعد أن صدر هذا القرار، الذى لم يراعِ فيه أبو غازى أيا من المعايير التى فرضها على نفسه وقت توليه للوزارة، ولم يتمتع هذا الاختيار بما ادعاه سابقا بأنه سكون شفافا فى قراراته، وبعيدا عن إثارة الريبة، وهذا بالضبط ما ينطبق على اختيار السفير عز الدين شكرى أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة، خلفا له، وهذا ما مثل القشة التى أشعلت غضب المثقفين.
لم يعرف الوسط الأدبى عز الدين شكرى عن قرب، وكل حيثياته فى الدخول إلى الوسط، هى كتابته لعدة روايات، مثله مثل العديد من المبدعين الذين حققوا تألقا واضحا فى الفترة الأخيرة، خلاف هذا فلا وجود لشكرى على أى مستوى إبداعى أو ثقافى، فاشتراكه فى المؤتمرات والندوات يكاد يكون معدوما، ومواقفه الثقافية والسياسية غامضة، كما أن مهاراته الإدارية والتنظيمية غير معلومة إلا لأبو غازى، فلا أحد يعرف شكرى، ولا شكرى يعرف أحدا.
إذا كان هذا هو حال شكرى فى داخل مصر، فما بالنا بخارجها، وإذا وضعنا فى الحسبان أن المجلس الأعلى للثقافة هو واجهة مصر الثقافية، وأن رئيسه يعد سفير مصر الدائم ومرآتها فى العالم العربى، بالإضافة إلى أن المجلس بلجانه المتشعبة وتخصصاته العديدة، هو عقل الوزارة المدبر وضميرها الحى، فبذلك يكون اختيار شكرى مغامرة لن يتحمل أبو غازى تبعاتها وحده، وهنا يحق لنا أن نتساءل لماذا اختار أبو غازى "شكرى"؟ ولماذا انحاز الوزير إليه واستبعد كفاءات أدبية ونقدية واعدة تتمتع بسمعة عربية ومحلية ناصعة مثل محمد بدوى، وحسين حمودة، وغيرهم الكثير؟ وما هى مؤهلات شكرى للعمل الثقافى العام وهو "الغريب" عن الوسط الأدبى عربيا ومحليا؟ وإذا كان معيار اختياره لهذا المنصب الثقافى الأهم هو كتابته لبضعة روايات أفليس "أى" مبدع شاب من المتحققين على المستوى الأدبى أحق منه بهذا المنصب؟
كل علامات الاستفهام هذه تلقى بالمزيد من الاعتراضات والحيرة حول مواقف عماد أبو غازى وسياساته، لكن ما لا يجب ألا نغفله هو أن الوزير مازال فى مرحلة التجريب، ولم تتضح بعد رؤيته للعمل الثقافى العام على المستوى البعيد، ونأمل أن تشكل هذه الاعتراضات إشارات لتوضيح سياسة الوزارة، لتصحيح المسار إن كان به اعوجاجا، وعلى كل.. أما نشوف.