ستدرك من ملابسها فورا ومن ملامح وجهها المهزومة والمكسورة بفعل الزمن أن نومها على أسفلت الكورنيش أمام ماسبيرو نزهة وليس اعتصاما أو تظاهرة.
«أم عبده» تنام هناك بينها وبين الأسفلت «ملاية» تستعملها أنت فى منزلك لإزالة الغبار عن الأحذية القديمة، وأمامها بقايا طعام يستعملونه فى بعض البيوت لإطعام البط والفراخ أو الكلاب، وبجوارها عدد لا بأس به من علب الأدوية والأقراص المختلفة الألوان تسعى لإنقاذها من الوحش السرطانى، الذى يهاجم قطع جسدها منذ عام ونصف العام.
«أنا ما بحبش المظاهرات يابنى بس إنت يرضيك إننا نعيش فى خيام وسط المجارى وبناتنا مكشوفة وعريانة قدام اللى رايح واللى جاى».. لم تنهِ «أم عبده» جملتها عند هذا الحد ولكن دموعها سبقتها قبل أن تكمل قائلة: «إحنا عاوزين أربع حيطان إن شالله تكون فى بطن الأرض»، وهنا تدخلت إحدى بناتها وقد غرقت ملامح وجهها فى بحر العرق: «إحنا مش هنمشى من هنا إلا إذا أخدنا الشقق اللى وعدونا بيها»، وحينما حاولت أن أخبر «نهى» عن جريمة قطع الطريق سبقتنى بضحكة، وقالت: «يا أستاذ ده إحنا هنا مبسوطين أوى.. إحنا كده فى مارينا هواء الكورنيش أحلى من تراب ومجارى الخيام.. مش هنمشى»!.. وقبل أن أرحل نظرت إلى «أم عبده» فردت علىّ تلك «النظرة» بصرخة واحدة مخلوطة بالكثير من الدموع: «إحنا ميتين»!
الحدوتة السابقة ليست من حواديت قبل النوم، ولا من القصص التى نرويها لكى «تمصمص» حضرتك شفايفك وتقول يا عينى يا حرام، وهى ليست أيضا قضية صحفية تتعلق بعجلة الإنتاج، التى يخبروننا بأنها «زعلانة» وترفض الدوران بسبب المظاهرات والاحتجاجات الفئوية، الأمر هنا يتعلق بالبشر، بهؤلاء الذين عاشوا سنوات تحت رحمة القمع والفقر و«الخرس»، وانطلقوا يهتفون لينفضوا المواجع من فوق صدورهم بعد أن فتحت لهم ثورة 25 يناير شباكا صغيرا فى جدار الصمت الطويل.
أنت بالطبع تسمع عن المظاهرات الفئوية وشرها الذى يتم تقديمه على أنه سبب خراب الاقتصاد، وتقديم أصحاب تلك المظاهرات على أنهم عملاء للموساد وأعداء للثورة، وليسوا مجرد مواطنين غلابة أعيتهم نار الأسعار، وأوجعتهم الأمراض وأذلتهم أياديهم القصيرة، التى لا تطول أيا مما يبصرونه حتى ولو كان ساندوتش فول!
لا تسمع كلام الحكومة والإعلام ياسيدى لأن الذين خرجوا للتظاهر سواء كانوا من عمال عمر أفندى أو فقراء الدويقة والسلام أو موظفى البحوث أصحاب حقوق أصيلة، نتفق معا على أخطائهم فى قطع الطريق وتعطيل المرور، لكن تلك قضية الدولة وقبضتها المرتعشة، التى لا تستطيع تنظيم مظاهرة أو منع الآخرين من السيطرة على شوارعها، لا تسقط فى فخ الإعلام وتنظر إلى هؤلاء الغلابة، الذين يتظاهرون من أجل كسوة أطفالهم وقتل الجوع الذى يزحف إلى بطونهم وكأنهم أعداء للوطن، لا تجعل من نفسك رأفت الهجان ومن اعتراضك وغضبك وكرهك لأصحاب المظاهرات الفئوية عملا وطنيا تدعم به الثورة، لأن الثورات قامت من أجل أن يخرج الناس للمطالبة بحقوقهم، فترد عليهم الحكومة بخطط واضحة ومنطقية لتنفيذ تلك المطالب طالما كانت فى نطاق ما هو مشروع، والأهم أنها تدخل فى نطاق ما هو ضرورى لضمان كرامة الآلاف، الذين أذلهم الجوع والفقر والمرض دون أن يشعر بهم أحد.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة