من نكد الدنيا على الواحد، أن يضطر إلى قراءة المقالات والدراسات النقدية التى تموج بقدر كبير من الاجتراء دون سند من منطق أو حصيلة معرفية، تسألنى: ولماذا تكون مضطرا إلى قراءتها مادامت هزيلة وغثة فى نظرك؟! أجيبك بأن هناك أحيانا ما يدعو إلى ذلك العذاب، كأن تكون طرفا فى تلك الكتابات، يتصدى أحدهم إلى التعليق على ماكتبت أو تدبيج دراسة نقدية عن كتاب لك يمعن فيها فى نصحك وإرشادك، على غرار ضباط الشرطة فى عهد مبارك ، " أنت كويس لكن تحتاج إلى إثبات حسن تعاونك" ، أو لأن الأوضاع المرتبكة التى نحياها تجعل الواحد يبحث عن الأفكار اللامعة وسط القش دون أن يفقد الأمل بأن الأكوام الهائلة التى نتصفحها مكرهين تخلو من شذرات ذهبية نخرج بها مكافأة على طول بالنا.
هذا الأمل الذى نحيا بنوره كما قالت الست سومة فى إحدى أعذب أغنياتها، يتحول كثيرا إلى ألم نعانى منه بعد قراءة أكوام الكلمات القش، وبعد تدريب طويل أساسه الصبر على قضاء الله وقدره، تحول الألم والضيق إلى عملية رصد لأهم الصفات والشروط التى يجب أن يحملها كاتب الدراسات النقدية والمقالات الفارغة، وكم كان هذا التحول فرصة لتنشيط الوعى وإعلاء فضيلة التفكير، التى أصبح الإنسان بمقتضاها حاملا للأمانة التى رفضت الجبال أن تحملها.
وجدت نفسى بعد قراءة مقالات من قبيل " يوميات سياسية فى ثياب شعرية" للناقد عمر شهريار بجريدة أخبار الأدب، أبحث عن ذلك العمى الاختيارى الذى يصاب به البعض عندما يتصدون لفعل جميل مثل القراءة النقدية، الأمر الذى لا يمكن مقارنته إلا بتحولات الإنسان العادى أول ما يقع عليه الاختيار لمنصب وزارى، تجده فجأة وقد تحول إلى كائن لا يرى إلا ما يصنعه من صور نمطية عن نفسه وعن الآخرين وعن الموضوعات التى يتصدى لمعالجتها، وفى حالة السيد الناقد فإن عماه يأتى من منطق امتلاكه سلطة التقييم واكتفائه بها بدلا من كدحه كدحا فى سبيل الفهم والاستيعاب، وقديما قيل إن النصوص الأدبية مثل النساء لا تمنحك نفسها إلا بالحصار الطويل أى بالتمعن والتدبر فى حال القراءة.
وجدت نفسى، بعد قراءة المقال المشار إليه، أسأل نفسى عن هذه الدرجة من البؤس التى ينحدر إليها السيد الناقد، وقد كان قادرا على الارتفاع إلى مراتب أعلى لو تخلى عن كليشيهات من قبيل " ثورة الشعر وشعر الثورة " أو أن الكتابات ذات الصلة بعالم السياسة هى موصومة بالمباشرة ابتداء، فى ذلك قدر كبير من الفقر فى التفكير يصل إلى حد العوز والبؤس والإملاق ، ولا يمكن أن يتخلص السيد الناقد منه إلا بأن يتطهر من التعالى الزائف المكشوف الذى يدعيه بامتلاكه القول الفصل القادر على التمييز بين المباشر وغير المباشر، الجيد والردىء إلى آخر هذه التصنيفات المعيارية الفاسدة.
وجدت نفسى ، بعد قراءة مقال " شهريار" ، أفكر فيما يضطر المرء إلى التعسف الفاضح فى عرض المجتزءات والشواهد ، على طريقة " ولا تقربوا الصلاة" ، لمجرد التدليل على فرضيات فاسدة يجاهد ويعانى من أجل التدليل عليها، صائحا مثل أرشميدس ، وجدتها " المباشرة " بشحمها ولحمها ، انظروا الشاعر يقول
"بينما ننشغل بمساعدة الجرحى
الذين سقطوا برصاص القناصة المختبئين
كانت طليعة الشرطة تنهب الناس وتروعهم"
دون أن يكمل النص الذى اجتزأه ، مفضلا أن يرتكب جريمة قاطع الطريق بروكرست الذى صنع سريرا، وكلما أوقع ضحية وضعها فى السرير فإذا كانت أطرافها أطول من مقاس السرير قطع الزائد منها وإذا كانت أقصر شدها حتى تنخلع، لأن الحقيقة فى نظره الضعيف أن يتطابق طول ضحيته مع السرير الذى صنعه.
يصيح السيد " شهريار، انظروا إلى خطابية الشاعر فى قصيدته "أين يختبئون من أنفسهم" :
" الذين أطلقوا الرصاص المطاطى فى العيون
القناصة الذين صوبوا بِغِلًّ رصاص 12 ملى على الرأس والقلب
وسائقو المدرعات الذين تعمدوا دهس الثوار تحت العجلات
اختفوا جميعهم فجأة
واختبأوا فى المجهول
بينما ظل الشهداء شهداء
والجرحى جرحى"
وبالطبع لم يفكر بروكرست ولا " شهريار لحظة واحدة باحتمال أن يكون على خطأ ولم يشك برهة فى صدق أفكاره وتطابقها مع الحقيقة التى سماها مطلقة، وها هو يصيح مرة ثالثة مشيرا إلى خطابية الشاعر، انظروا ، انظروا إلى مصدر المباشرة فى قوله..
"نجحت الثورة
بفضل تلك الأصوات الواهنة لأمهاتنا وجداتنا
اللاتى جلسن على الأرصفة
يقدمن الماء والإرشادات للثوار"
نحمد الله عز وجل حمدا كثيرا أن حفظ علينا نعمة النظر التى تكفل لنا التمعن فى درجات الألوان اللانهائية بين الأبيض والأسود، وأن نتأمل المراتب اللانهائية بين الأرض والسماء أو بين الخبيث والطيب ، كما نحمده عز وجل على نعمة الشك وفضيلة التفهم وميزة الكدح باتجاه النصوص الأدبية حتى تفتح لنا أبوابها راضية مرضية.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة